ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من جزاء طيب فقال : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } .
أى : والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات ، لننزلنهم من الجنة غرفا عالية فخمة . هذه الغرف من صفاتها أنها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } زيادة فى إكرام أصحابها ، وفضلاً عن ذلك فقد جعلناهم { خَالِدِينَ فِيهَا } خلوداً أبدياً .
والمخصوص بالمدح فى قوله : { نِعْمَ أَجْرُ العاملين } محذوف . أى : نعم أجر العاملين ، أجر هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده ؛ بل يكشف عما أعده لهم هناك . وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة . ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض . عوض من نوعها وأعظم منها :
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ) .
وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله :
نعم أجر العاملين ، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . .
وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب ، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم } لننزلنهم . { من الجنة غرفا } علالي ، وقرأ حمزة الكسائي " لنثوينهم " أي لنقيمنهم من الثواء فيكون انتصاب غرفا لإجرائه مجرى لننزلهم ، أو بنزع الخافض أو بتشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين } وقرئ " فنعم " والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله .
ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضاً منه تعالى ، وذكر الجزاء الذي ينالونه ، وقرأ جمهور القراء «لنبوئنهم » من المباءة أي لننزلنهم ولنمكننهم ليدوموا فيها ، و { غرفاً } مفعول ثان لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم » من أثوى يثوي وهو معدى ثوى بمعنى أقام وهي قراءة على بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود والربيع بن خيثم{[9272]} وابن وثاب وطلحة ، وقرأها بعضهم «لنثَوّينهم » بفتح الثاء وتشديد الواو معدى بالتضعيف لا بالهمزة ، فقوله { غرفاً } نصب بإسقاط حرف الجر التقدير في غرف ، وقرأ يعقوب «لنبوينهم » بالياء من تحت ، وروي عن ابن عامر «غُرُفاً » بضم الغين والراء .
عطف على جملة : { والذين ءامنوا بالباطل } [ العنكبوت : 52 ] .
وجيء بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، أي نُبَوِّئَنهم غرفاً لأجل إيمانهم وعملهم الصالح .
والتبوئة : الإِنزال والإِسكان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } في سورة يونس [ 93 ] . وقرأ الجمهور : [ لَنُبَوِّئَنَّهُم ] بموحدة بعد نون العظمة وهمزة بعد الواو . وقرأ حمزة والكسائي وخلف : { لَنُثَوِّيَنَّهم } بمثلثة بعد النون وتحتية بعد الواو من اثواه بهمزة التعدية إذا جعله ثاوياً ، اي مقيماً في مكان .
والغُرَف : جمع غُرفة ، وهو البيت المعتلَى على غيره . وتقدم عنه قوله تعالى : { أولئك يُجْزون الغرفة } في آخر سورة الفرقان [ 75 ] . وجملة : { نَعْمَ أجر العَامِلِين } الخ . . إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطُوه ، فلذلك قطعت عن العطف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المهاجرين، فقال سبحانه: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم} يعني لننزلنهم {من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لا يموتون في الجنة {نعم أجر} يعني جزاء {العاملين} لله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب نبيه: هاجِرُوا من أرض الشرك من مكة، إلى أرض الإسلام المدينة، فإن أرضي واسعة، فاصبروا على عبادتي، وأخلِصوا طاعتي، فإنكم ميتون، وصائرون إليّ، لأن كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا بعد الموت تُرَدّون. ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما أعدّ للصابرين منهم على طاعته، من كرامته عنده، فقال:"والّذين آمنوا"، يعني صدّقوا الله ورسوله، فيما جاء به من عند الله، وعَمِلوا الصّالِحاتِ: يقول: وعملوا بما أمرهم الله فأطاعوه فيه، وانتهوا عما نهاهم عنه "لَنُبَوّئَنّهُمْ مِنَ الجَنّةِ "غُرَفا يقول: لننزلنهم من الجنة عَلاليّ.
واختلفت القُرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: لَنُبَوّئَنّهُمْ بالباء وقرأته عامة قرّاء الكوفة بالثاء: «لَنُثْوِيَنّهُمْ».
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القُرّاء، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن قوله: "لَنُبَوّئَنّهُمْ "من بوأته منزلاً: أي أنزلته، وكذلك لنُثْوينهم إنما هو من أثويته مَسْكَنا إذا أنزلته منزلاً، من الثواء، وهو المُقام.
وقوله: "تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول: تجرى من تحت أشجارها الأنهار. "خالِدِينَ فِيها" يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية.
"نِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ" يقول: نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرفُ التي يُثْوِيهُمُوها الله في جَنّاته، تجري من تحتها الأنهار، الذين صبروا على أذى المشركين في الدنيا، وما كانوا يَلْقون منهم، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه، وجهاد أعدائه "وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ" في أرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا يَنْكُلون عنهم ثقة منهم بأن الله مُعْلِي كلمته، ومُوهِن كيد الكافرين، وأن ما قُسم لهم من الرزق فلن يَفُوتَهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم} أي لنهيئن لهم {من الجنة غرفا} يقال: بوأها: أنزلها، وهيأها...
وقوله تعالى: {خالدين فيها نعم أجر العالمين} أي: ثوابهم وجزاؤهم...
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران، وبين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله: {ذوقوا ما كنتم تعملون} ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف؛ منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذابا أي نارا، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئا، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف، وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار، فيكون فوقه طبقات من النار، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين، فلم يذكر فوقهم شيئا إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم. وأما قوله تعالى: {لهم غرف من فوقها غرف} لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم، ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء، وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقا ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها، أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم، وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذا به، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان، ومنها أن هناك قال ذوقوا لإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا {نعم أجر العاملين} لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يفهم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه، وأما إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك: {ذوقوا ما كنتم تعملون} فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع، قلنا ليس كذلك لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائما ولا ينقص ولا يزداد، وأما المؤمن إذا أعطاه شيئا فلا يتركه مع ما أعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام، وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: لنسكننهم منازل عاليةً في الجنة تجري من تحتها الأنهار، على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر، وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده؛ بل يكشف عما أعده لهم هناك. وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة. ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض. عوض من نوعها وأعظم منها: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها). وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله: نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون.. وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع...