فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفٗا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ} (58)

{ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون 56 كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون57 والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين58 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون 59 }

شرف الله تعالى المؤمنين فنسبهم إليه ، وناداهم{ يا عبادي } وشهد لهم سبحانه أنهم أهل تصديق ويقين ، ودعاهم إلى الثبات على عبادته ومداومتها ، فمن لم يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من أعداء الله تعالى ومن والاهم ، تلزمه النقلة الى حيث يتسنى له الوفاء بعهد ربه ، وأداء ما تعبده به ، [ المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص{[3253]} فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالا {[3254]} ، وأرفع حلا{[3255]} ، وأقل عوارض نفسية ، وأكمل دواعي روحانية . . . والفاء في{ فإياي } للدلالة على أنه جواب الشرط . . . . وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضى . . فصار حاصل المعنى : إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله : { يا عبادي } . . إما المداولة . . أو الإخلاص في العبادة ]{[3256]} ، فإن تهيب مخاطر السفر ، ومهالك الارتحال والنقل ، فإنه لن يموت إلا عند حلول الأجل ، وبعده يكون العرض على الله ، والجزاء بالعدل ، ولقد أشير إلى معنى الآيتين في قول المولى تبارك وتعالى : )ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله . . ( {[3257]} ، وبشرى لكم أهل الإيمان والصلاح ، والهجرة والجهاد ، والثبات والنصرة ، جنات عاليات مبنيات ، وقصور ما بعدها من قصور ، لكنها رفيعة مشيدة ، تجري من تحت حدائقها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل ، تنعمون فيها أبدا ، وأكرم بدار مقام ، يعم فيها السلام ، عند مليك مقتدر ، يجزي على الإحسان بمزيد الإحسان ، للذين صبروا في البأساء والضراء وحين يلتقي الجمعان ، وهم يعتصمون على كل حال بحول الرحيم الرحمن ، الملك الديان ، فهو حسبنا ونعم الوكيل .

في صحيح مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف{[3258]} من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .


[3253]:لعل الأوفق: الإحسان.
[3254]:مما قال عطاء: الأرض التي فيها الظلم والمنكر تلزم الهجرة عنها...
[3255]:قال مجاهد:{إن أرضي واسعة} فهاجروا وجاهدوا، وقال سفيان الثوري: إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها، تملأ فيها جرابك خبزا بدرهم.
[3256]:ما بين العلامتين[ ] أورده صاحب[غرائب القرآن ورغائب الفرقان].
[3257]:سورة النساء. من الآية 100.
[3258]:أخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها" فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال:" هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام".