مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفٗا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ} (58)

ثم قال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين }

بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران ، وبين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار ، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى : { نعم أجر العاملين } في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله : { ذوقوا ما كنتم تعملون } ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذابا أي نارا ، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئا ، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف ، وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان ، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار ، فيكون فوقه طبقات من النار ، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين ، فلم يذكر فوقهم شيئا إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم .

وأما قوله تعالى : { لهم غرف من فوقها غرف } لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم ، ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار ، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء ، وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقا ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها ، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها ، أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم ، وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذا به ، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها ، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان ، ومنها أن هناك قال ذوقوا لإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا { نعم أجر العاملين } لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده ، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يفهم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه ، وأما إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك : { ذوقوا ما كنتم تعملون } فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع ، قلنا ليس كذلك لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائما ولا ينقص ولا يزداد ، وأما المؤمن إذا أعطاه شيئا فلا يتركه مع ما أعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام ، وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص .