{ ف } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } هل يشعر به آل فرعون ، أم لا ؟ وإنما خاف ، لأنه قد علم ، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل .
فبينما هو على تلك الحال { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ } على عدوه { يَسْتَصْرِخُهُ } على قبطي آخر . { قَالَ لَهُ مُوسَى } موبخا له على حاله { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي : بين الغواية ، ظاهر الجراءة .
ثم بين - سبحانه - ما كان من أمر موسى بعد هذه الحادثة فقال : فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } .
أى : واستمر موسى - عليه السلام - بعد قتله للقبطى ، يساوره القلق ، فأصبح يسير فى طرقات المدينة التى حدث فيها القتل ، { خَآئِفاً } من وقوع مكروه به { يَتَرَقَّبُ } ما سيسفر عنه هذا القتل من اتهامات وعقوبات ومساءلات .
والتعبير بقوله { خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } يشعر بشدة القلق النفسى الذى أصاب موسى - عليه السلام - فى أعقاب هذا الحادث ، كما يشعر - أيضا - بأنه - عليه السلام - لم يكن فى هذا الوقت على صلة بفرعون وحاشيته ، لأنه لو كان على صلة بهم ، ربما دافعوا عنه ، أو خففوا المسألة عليه .
و { إِذَا } فى قوله - تعالى - { فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ } فجائية .
ويستصرخه : أى : يستغيث به ، مأخوذ من الصراخ وهو رفع الصوت ، لأن من عادة المستغثيث بغيره أن يرفع صوته طالبا النجدو والعون .
أى : وبينما موسى على هذه الحالة من الخوف والترقب ، فإذا بالشخص الإسرائيلى الذى نصره موسى بالأمس ، يستغيث به مرة أخرى من قبطى آخر ويطلب منه أن يعينه عليه .
وهنا قال موسى - عليه السلام - لذلك الإسرائيلى المشاكس : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } .
والغوى : فعيل من أغوى يغوى ، وهو بمعنى مغو ، كالوجيع والأليم بمعنى : الموجع والمؤلم . والمراد به هنا : الجاهل أو الخائب أو الضال عن الصواب .
أى : قال له موسى بحدة وغضب : إنك لضال بين الضلال ولجاهل واضح الجهالة ، لأنك تسببت فى قتلى لرجل بالأمس ، وتريد أن تحملنى اليوم على أن أفعل ما فعلته بالأمس ، ولأنك لجهلك تنازع من لا قدرة لك على منازعته أو مخاصمته .
ومع أن موسى - عليه السلام - قد قال للإسرائيلى { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ }
( فأصبح في المدينة خائفا يترقب ؛ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ، قال له موسى : إنك لغوي مبين . فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ? إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ، وما تريد أن تكون من المصلحين ) . .
لقد انتهت المعركة الأولى بالقضاء على القبطي ، وندم موسى على فعلته ، وتوجهه إلى ربه ، واستغفاره إياه ، ومغفرته له ، وعهده على نفسه ألا يكون ظهيرا للمجرمين .
ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره ، يترقب الافتضاح والأذى . ولفظ( يترقب )يصور هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس ، ويتوقع الشر في كل لحظة . . وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك . والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ ، كما أنه يضخمها بكلمتي ( في المدينة )فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة ، فإذا كان خائفا يترقب في المدينة ، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر !
وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر . وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان ! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح ( خائفا يترقب )لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره .
وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع : ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) !
إنه صاحبه الإسرائيلي الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي . إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر ؛ وهو يستصرخ موسى لينصره ؛ ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى !
ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى . وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه . ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى . فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه ، ويصفه بالغواية والضلال :
( قال له موسى : إنك لغوي مبين ) . .
غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل . وهم عن الثورة الكاملة عاجزون ، وعن الحركة المثمرة ضعفاء . فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد .
وقوله تعالى { فأصبح } عبارة عن كونه دائم الخوف في كل أوقاته كما تقول : أصبح زيد عالماً ، و { يترقب } معناه عليه رقبة من فعله في القتل فهو متحسس ، قال ابن عباس : فمر وهو بحالة الترقب وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل آخر من القبط ، وكان قتل القبطي قد خفي عن الناس واكتتم فلما رأى الإسرائيلي موسى استصرخه بمعنى صاح به مستغيثاً ومنه قول الشاعر [ سلامة بن جندل ] : [ البسيط ]
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع . . . كان الصراخ له فزع الظنابيب{[9127]}
فلما رأى موسى قتاله لآخر أعظم ذلك وقال له معاتباً ومؤنباً { إنك لغوي مبين } وكانت إرادة موسى مع ذلك أن ينصر الإسرائيلي فلما دنا منهما خشي الإسرائيلي وفزع منه وظن أنه ربما ضربه وفزع من قوته التي رأى بالأمس فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول .
أي أصبح خائفاً من أن يطالب بدم القبطي الذي قتله وهو يترقب ، أي يراقب ما يقال في شأنه ليكون متحفزاً للاختفاء أو الخروج من المدينة لأن خبر قتل القبطي لم يفش أمره لأنه كان في وقت تخلو فيه أزقة المدينة كما تقدم ، فلذلك كان موسى يترقب أن يظهر أمر القبطي المقتول .
و ( إذا ) للمفاجأة ، أي ففاجأه أن الذي استنصره بالأمس يستنصره اليوم .
والتعريف في ( الأمس ) عوض عن المضاف إليه ، أي بأمسه إذ ليس هو أمساً لوقت نزول الآية .
والاستصراخ : المبالغة في الصراخ ، أي النداء ، وهو المعبر عنه في القصة الماضية بالاستغاثة فخولف بين العبارتين للتفنن . وقول موسى له { إنك لغوي مبين } تذمر من الإسرائيلي إذ كان استصراخه السالف سبباً في قتل نفس ، وهذا لا يقتضي عدم إجابة استصراخه وإنما هو بمنزلة التشاؤم واللوم عليه في كثرة خصوماته .
والغوي : الشديد الغواية وهي الضلال وسوء النظر ، أي أنك تشاد من لا تطيقه ثم تروم الغوث مني يوماً بعد يوم ، وليس المراد أنه ظالم أو مفسد لأنه لو كان كذلك لما أراد أن يبطش بعدوه .