ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم ، وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى :
{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
أي : ما يرغب { عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي : جهلها وامتهنها ، ورضي لها بالدون ، وباعها بصفقة المغبون ، كما أنه لا أرشد وأكمل ، ممن رغب في ملة إبراهيم ، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي : اخترناه ووفقناه للأعمال ، التي صار بها من المصطفين الأخيار .
{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات .
ثم عرض القرآن بعد ذلك بالجاحدين والمعاندين الذين تركوا الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم فقال : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطفيناه . . . }
قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } معناه : لا أحد من الناس يكره ملة إبراهيم وينصرف عنها إلى الشرك بالله ، إلا من امتهن نفسه ، واستخف بها وظلمها بسوء رأيه حيث ترك طريق الحق إلى طريق الضلالة .
يقال رغب في كذا إذا أراده ، ورغب عن كذا إذا كرهه وانصرفت عنه نفسه والملة في الأصل الطريقة ، وغلب إطلاقها على أصول الدين من حيث إن صاحبها يصل عن طريقها إلى دار السلام وسفه نفسه امتهنا واستخف بها .
ثم بين الله - تعالى - منزلة نبيه إبراهيم - عليه السلام - وخطأ من يرغب عن طريقته المثلى فقال تعالى : { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } أي : ولقد اخترناه للرسالة وهداية الناس وإرشادهم في الدنيا ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المستقيمين على الطريقة المثلى . فمن يرغب عن ملة من هذا شأنه إلى غيرها من طرق الضلال لا يماثله أحد في سفهه وسوء رأيه .
وعند هذا المقطع من قصة إبراهيم ، يلتقط السياق دلالته وإيحاءه ، ليواجه بهما الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة ؛ وينازعون الرسول [ ص ] النبوة والرسالة ؛ ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة :
( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ؟ ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين . إذ قال له ربه أسلم . قال : أسلمت لرب العالمين . ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب : يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون . . )
هذه هي ملة إبراهيم . . الإسلام الخالص الصريح . . لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه ، سفيه عليها ، مستهتر بها . . إبراهيم الذي اصطفاه ربه في الدنيا إماما ، وشهد له في الآخرة بالصلاح . .
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم } استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء ، أي لا يرغب أحد من ملته . { إلا من سفه نفسه } إلا من استمهنها وأذلها واستخف بها . قال المبرد وثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ، ويشهد له ما جاء في الحديث " الكبر أن تسفه الحق ، وتغمص الناس " . وقيل : أصله سفه نفسه على الرفع ، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ، وقول النابغة الذبياني :
ونأخذ بعده بذناب عيش *** أجب الظهر ليس له سنام
أو سفه في نفسه ، فنصب بنزع الخافض . والمستثنى في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يرغب لأنه في معنى النفي . { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } حجة وبيان لذلك ، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهودا له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة ، كان حقيقا بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه ، أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر .
{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ( 130 )
{ من } استفهام في موضع رفع بالابتداء ، و { يرغب } خبره ، والمعنى يزهد ويربأ بنفسه عنها ، والملة الشريعة والطريقة ، و { سفه } من السفه الذي معناه الرقة والخفة ، واختلف في نصب { نفسه } ، فقال الزجاج : { سفه } بمعنى جهل وعداه بالمعنى( {[1272]} ) ، وقال غيره : { سفه } بمعنى أهلك ، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها( {[1273]} ) ، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة ، وقال الفراء نصبها على التمييز( {[1274]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق ، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في { من } ، فكأن الكلام : إلا من سفه نفساً( {[1275]} ) ، وقال البصريون : لا يجوز التمييز مع هذا التعريف ، وإنما النصب على تقدير حذف «في » ، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل ، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن ، وحكى مكي أن التقدير { إلا من سفه } قوله { نفسه } على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياساً على النعت والمنعوت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متحامل( {[1276]} ) ، و «اصطفى » «افتعل » من الصفوة معناه تخير الأصفى ، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق( {[1277]} ) ، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلاً ، و { في الآخرة } متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح ، ولا يصلح( {[1278]} ) تعلقه ب { الصالحين } لأن الصلة لا تتقدم الموصول ، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي ، وقال بعضهم : الألف واللام هنا للتعريف ويستقيم الكلام( {[1279]} ) ، وقيل : المعنى أنه من عمل الآخرة { لمن الصالحين } ، فالكلام على حذف مضاف .