{ هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } .
أي : هذا كتابنا الذي سجلته عليكم الملائكة ، يشهد عليكم بالحق ، لأنه لا زيادة فيما كتب عليكم ولا نقصان ، وإنما هي أعمالكم أحصيناها عليكم .
قال القرطبي : قوله - تعالى - : { هذا كِتَابُنَا } قيل من قول الله لهم ، وقيل من قول الملائكة .
{ يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } أي : يشهد . وهو استعارة ، يقال : نطق عليهم .
دليله قوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ يا ويلتنا مَا لِهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } وقوله - سبحانه - : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وقوله : { يَنطِقُ } فى موضع الحال من الكتاب .
وقال الجمل في حاشيته : فإن قيل : كيف أضيف الكتاب إليهم في قوله : { كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا } .
وأضيف هنا إلى الله - تعالى - فقال : { هذا كِتَابُنَا } .
فالجواب أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم ، وكتاب الله ، بمعنى أنه - سبحانه - هو الذي أمر الملائكة بكتابته .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تعليل للنطق بالحق ، أي : إنا كنا نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالكم ، أي : بكتابتها وتثبيتها عليكم في الصحف ، حسنة كانت أو سيئة ، فالمراد بالنسخ هنا : الإِثبات لا الإِزالة .
ثم قال : { هَذَا {[26360]} كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : يستحضر {[26361]} جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص{[26362]} ، كقوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] .
وقوله : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم .
قال ابن عباس وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ، ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر ، مما كتبه{[26363]} الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم ، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، ثم قرأ : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
وقوله تعالى : { هذا كتابنا } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب المنزلة أو إلى اللوح المحفوظ ، قال مجاهد ومقاتل : يشهد بما سبق فيه من سعادة أو شقاء ، أو تكون الكتب الحفظة ، وقال ابن قتيبة : هي إلى القرآن .
واختلف الناس في قوله تعالى : { نستنسخ } فقالت فرقة معناه : نكتب . وحقيقة النسخ وإن كانت أن تنقل خط من أصل ينظر فيه ، فإن أعمال العباد هي في هذا التأويل كالأصل ، فالمعنى : إنا كنا نقيد كل ما عملتم . قال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم . وروى ابن عباس وغيره حديثاً أن الله تعالى يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس فينقل من الصحف التي رفع الحفظة كل ما هو معد أن يكون عليه ثواب أوعقاب ويلغى الباقي . قالت هذه الفرقة : فهذا هو النسخ من أصل . وقال ابن عباس أيضاً : معنى الآية أن الله تعالى يجعل الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك فتقيد أيضاً ، فذلك هو الاستنساخ . . وكان ابن عباس يقول : ألستم عرباً ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل .
جملة { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } من مقول القول المقدّر ، وهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لتوقع سؤال من يقول منهم : ما هو طريق ثبوت أعمالها . والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة ، وإما إلى كُتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمين .
وإفراد ضمير { ينطق } على هذا الوجه مراعاة للفظ { كتابنا } ، فالمعنى هذه كتبنا تنطق عليكم بالحق .
وإضافة ( كتاب ) إلى ضمير الله تعالى بعد أن أضيف إلى { كل أمة } لاختلاف الملابسة ، فالكتاب يلابس الأمة لأنّه جعل لإحصاء أعمالهم أو لأن ما كلفوا به مثبت فيه ، وإضافته إلى ضمير الله لأنه الآمر به . وإسناد النطق إلى الكتاب مجاز عقلي وإنما تنطق بما في الكتاب ملائكة الحساب ، أو استعير النطق للدلالة نحو قولهم : نطقت الحال .
والمعنى : أن فيه شهادة عليهم بأن أعمالهم مخالفة لوصايا الكتاب أو بأنها مكتوبة في صحائف أعمالهم على التأويلين في المراد بالكتاب . ولتضمن { ينطق } معنى ( يشهد ) عدي بحرف ( على ) .
ولما كان المقام للتهديد اقتصر فيه على تعدية { يَنطق } بحرف ( على ) دون زيادة : ولكم ، إيثاراً لجانب التهديد .
وجملة { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } استئناف بياني لأنهم إذا سمعوا { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } خطر ببالهم السؤال : كيف شهد عليهم الكتاب اليوم وهم قد عملوا الأعمال في الدنيا ، فأجيبوا بأن الله كَانَ يأمر بنسخ ما يعملونه في الصحف في وقت عمله .
وإن حمل الكتاب على كتب الشريعة كانت جملة { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } تعليلاً للجملة قبلها باعتبار تقييد النطق بأنه بالحق ، أي لأن أعمالكم كانت محصاة مبيّن ما هو منها مخالف لما أمر به كتابهم .
والاستنساخ : استفعال من النسخ .
والنسخ : يطلق على كتابة ما يكتب على مثالِ مكتوبٍ آخرَ قبله . ويسمى بالمعارضة أيضاً . وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم : نسخت الشمسُ الظلَّ مجاز . وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ . وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين ، فإذا درجتَ على كلام الجمهور فقد جُعلت كتابةُ مكتوبٍ على مثال مكتوبٍ قبله كإزالةٍ للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول لمن ليس عنده أو لخشيَةِ ضياع الأصل . وعن ابن عباس أنه يقول : ألستُم عَرَباً وهل يكون النسخ إلا من كتاب .
وأما إطلاق النسخ على كتابة أُنفٍ ليست على مثال كتابةٍ أخرى سبقتها فكلام الزمخشري في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة ، وهو ظاهر كلامه في « الكشاف » ، فيكون لفظ النسخ مشتركاً في المعنيين بل ربما كان معنى مطلق الكتابة هو الأصلَ وكانت تسمية كتابةٍ على مثل كتابةٍ سابقة نسخاً لأن ذلك كتابة وكلام صاحب « اللسان » وصاحب « القاموس » أن نَقل الكتابة لا يسمى نسخاً إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة . وهذا اختلاف مُعضل ، والأظهر ما ذهب إليه صاحب « اللسان » وصاحب « القاموس » فيجوز أن يكون السين والتاء في { نستنسخ } للمبالغة في الفعل مثل استجاب . ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف ، أيْ نكلف الملائكة نسخ أعمالكم ، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب ، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر ابن عباس قال : إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم ، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه النّاس دون نقل عن أصل .
والمعنى : إنا كنا نكتب أعمالكم . وعن علي بن أبي طالب أنه قال : إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم ومثله عن الحسن والسدّي .
والنسخ هنا : الكتابة ، وإسناد فعل الاستنتاج إلى ضمير الله على هذا إسناد مجازي لأن الله أمر الحفظة بكتابة الأعمال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ} من اللوح المحفوظ.
{ما كنتم تعملون} آية قبل أن تعملونها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لكلّ أمة دعيت في القيامة إلى كتابها الذي أملت على حفظتها في الدنيا: اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فلا تجزعوا من ثوابناكم على ذلك، فإنكم ينطق عليكم إن أنكرتموه بالحقّ فاقرأوه.
إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: إنا كنا نستكتب حفظتنا أعمالكم، فتثبتها في الكتب وتكتبها...
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا النضر بن إسماعيل عن أبي سنان الشيبانيّ، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} يحتمل الكتاب الذي أضاف إلى نفسه، هو القرآن الذي كان ينطق لهم بالحق أي بالحق الذي لله عليهم، وما لبعضهم على بعض أو {بالحق} أي بالصدق بأنه من الله تعالى، والله أعلم.
{إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} اختُلف في تأويله: قال بعضهم: إن الحفظة تكتب أعمال بني آدم، ثم يعارضون ذلك بما في اللوح المحفوظ المكتوب فيه: أن فلانا يعمل كذا وكذا، فلا يُزاد شيء، ولا يُنقص. وعن ابن عباس رضي الله عنه [أنه قال] قريبا من هذا: إن في السماء كتابا، عليه ملائكة، والملائكة الذين مع بني آدم يستنسخون من ذلك الكتاب ما يعملون، ثم قال: وهل تكون النسخة إلا من كتاب أو شيء؟ والله أعلم.
وقال بعضهم: ملكان موكلان بالكتابة، يكتب كل واحد منهما ما يعمله، فإذا أراد أن يصعد إلى السماء، يُعارض كل واحد منهما كتابة الذي كتبه مع كتاب الآخر، فلا يتخطّى حرفا مما كتب هذا ما كتب الآخر، والله أعلم.
وقال بعضهم: عرض كتاب الناس الذي عملوا كل يوم أو كل خميس، فيُنسخ منه الخير والشر من غير أخذ من كتاب أو نحوه، فإنه يجوز أن يُستعمل الانتساخ في ابتداء الكتابة على غير أخذ من الكتاب أو غيره نحو أن يقول الرجل: استنسخته، أي كتبته، فيكون كأنه قال: إنا كنا نستنسخ، أي نكتب ما كنتم تعملون ونُثبته عليكم من خير أو شر، فنُخرج لهم كتبهم التي في أعمالهم، فكان عليهم حجة، وهي التي كتبت عليهم الحفظة.
{هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} يريد أنهم يقرؤونه فيدلُّهم ويذكّرهم، فكأنه ينطق عليهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ} فيه ثلاثة أوجه: الثالث: نستنسخ ما كتبت عليكم الملائكة الحفظة، قاله الحسن؛ لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
ليس لكتاب آلة العبارة، ولا عدة الإشارة، لكن لما تضمن جميع الأشياء، وأحاط بكل المكونات، واستولى على لطائف الموجودات وكثائفها،... فبهذا المعنى سمى الله كتابه ناطقا، ليعلم العاقل أن الناطق من الناس قد تكون نفسه...
أعمال الخلائق كل يوم تعرض على الله، فيأمر الكرام البررة أن يستنسخوها في ذلك الكتاب العظيم، وهو قوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله عزَّ وجل؟ قلت: الإضافة تكون للملابسة، وقد لابسهم ولابسه، أما ملابسته إياهم؛ فلأن أعمالهم مثبتة فيه. وأما ملابسته إياه؛ فلأنه مالكه، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر بالجزاء، بين كيفية ما به يطبق بين كتاب الإنزال وكتاب الأعمال، فما حكم به كتاب الإنزال أنفذه الكبير المتعال، فقال مشيراً إلى كتاب الإنزال بأداة القريب لقربه وسهولة فهمه: {هذا كتابنا} أي- الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا {ينطق} أي يشهد شهادة هي- في بيانها كالنطق.
{عليكم بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم، وذلك بأن يقول: من عمل كذا فهو كافر، ومن عمل كذا فهو عاص، ومن عمل كذا فهو مطيع، فيطبق ذلك على ما عملتموه فإذا الذي أخبر به الكتاب مطابق لأعمالكم لا زيادة فيه ولا نقص، كل كلي ينطبق على جزئيه سواء بسواء كما نعطيكم علم ذلك في ذلك اليوم، فينكشف أمر جبلاتكم وما وقع منكم من جزئيات الأفعال لا يشذ عنه منه ذرة، وتعلمون أن هذا الواقع منكم مطابق لما أخبر به الكتاب الذي أنزلناه، فهو حق؛ لأن الواقع طابقه، هذا نطقه عليكم، وأما نطقه لكم فالفضل: الحسنة بعشر أمثالها إلى ما فوق ذلك.
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق، وكانوا كأنهم يقولون: من يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان، وكانوا ينكرون أمر الحفظة وغيره مما أتت به الرسل، أكد قوله مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك: {إنا} على ما لنا من القدرة و العظمة الغنية عن الكتابة.
{كنا} على الدوام {نستنسخ} أي نأمر ملائكتنا بنسخ أي نقل.
{ما كنتم} طبعاً لكم وخلقاً {تعملون *} قولاً وفعلاً ونية، فإن كان المراد بالنسخ مطلق النقل فهو واضح، وإن كان النقل من أصل فهو إشارة إلى لوح الجبلات المشار إليه بكنتم أو من اللوح المحفوظ ليطابق به ما يفعله العامل، ومن المشهور بين الناس أن كل أحد يسطر في جبينه ما يلقاه من خير أو شر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} من مقول القول المقدّر، وهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لتوقع سؤال من يقول منهم: ما هو طريق ثبوت أعمالها. والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة، وإما إلى كُتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمين.
وإفراد ضمير {ينطق} على هذا الوجه مراعاة للفظ {كتابنا}، فالمعنى هذه كتبنا تنطق عليكم بالحق.
إسناد النطق إلى الكتاب مجاز عقلي وإنما تنطق بما في الكتاب ملائكة الحساب، أو استعير النطق للدلالة نحو قولهم: نطقت الحال. ولتضمن {ينطق} معنى (يشهد) عدي بحرف (على).
ولما كان المقام للتهديد اقتصر فيه على تعدية {يَنطق} بحرف (على) دون زيادة: ولكم، إيثاراً لجانب التهديد.
والنسخ: يطلق على كتابة ما يكتب على مثالِ مكتوبٍ آخرَ قبله. ويسمى بالمعارضة أيضاً. وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم: نسخت الشمسُ الظلَّ مجاز. وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ. وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين، فإذا درجتَ على كلام الجمهور فقد جُعلت كتابةُ مكتوبٍ على مثال مكتوبٍ قبله كإزالةٍ للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول، لمن ليس عنده أو لخشيَةِ ضياع الأصل. وعن ابن عباس أنه يقول: ألستُم عَرَباً وهل يكون النسخ إلا من كتاب.
وأما إطلاق النسخ على كتابة أُنفٍ ليست على مثال كتابةٍ أخرى سبقتها فكلام الزمخشري في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة، وهو ظاهر كلامه في « الكشاف»، فيكون لفظ النسخ مشتركاً في المعنيين بل ربما كان معنى مطلق الكتابة هو الأصلَ وكانت تسمية كتابةٍ على مثل كتابةٍ سابقة نسخاً؛ لأن ذلك كتابة وكلام صاحب « اللسان» وصاحب « القاموس» أن نَقل الكتابة لا يسمى نسخاً إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة. وهذا اختلاف مُعضل، والأظهر ما ذهب إليه صاحب « اللسان» وصاحب « القاموس» فيجوز أن يكون السين والتاء في {نستنسخ} للمبالغة في الفعل مثل استجاب. ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف، أيْ نكلف الملائكة نسخ أعمالكم، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر ابن عباس قال: إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه النّاس دون نقل عن أصل، والمعنى: إنا كنا نكتب أعمالكم.