{ 45 - 49 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ْ } أي : طائفة من الكفار تقاتلكم .
{ فَاثْبُتُوا ْ } لقتالها ، واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة ، التي عاقبتها العز والنصر .
واستعينوا على ذلك بالإكثار من ذكر اللّه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ْ } أي : تدركون ما تطلبون من الانتصار على أعدائكم ، فالصبر والثبات والإكثار من ذكر اللّه من أكبر الأسباب للنصر .
وبعد هذا التذكير النافع ، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر ، وجه - سبحانه - في هذه السورة إلى المؤمنين النداء السادس والأخير ، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالمداومة على ذكره وطاعته . . ونهاهم عن التنازع والاختلاف فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا . . . مَعَ الصابرين } .
وقوله : { لَقِيتُمْ } من اللقاء بمعنى المقابلة والمواجهة ، ويغلب استعماله في لقاء القتال وهو المراد هنا .
وقوله : { فِئَةً } أى : جماعة . مشتقة من الفئ بمعنى الرجوع ، لأن بعضهم يرجع إلى بعض .
والمراد بها هنا : جماعة المقاتلين من الكافرين وأشباههم .
والمتتبع لاستعمال القرآن لهذه الكلمة ، يراه يستعملها - في الأعم الأغلب - في الجماعة المقاتلة أو الناصرة أو ما يشبه ذلك .
قال - تعالى - : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله . . . } وقال - تعالى - : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ . . . } وقال - تعالى - : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله حق الإِيمان ، { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } أى : حاربتم جماعة من أعدائكم ، فاثبتوا لقتالهم وأغلظوا عليهم في النزال ، ولا تولوهم الأدبار ، { فاثْبُتُواْ واذكروا الله كَثِيراً } لا سيما في مواطن الحرب ، فإن ذكر الله عن طريق القلب واللسان من أعظم وسائل النصر : لأن المؤمن متى استحضر عظمه الله في قلبه لا تهوله قوة عدوه ، ولا تخيفه كثرته . .
وقوله { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أى : لعلكم تظفرون بمرادكم من النصر وحسن الثواب ، متى فعلتم ذلك عن إخلاص .
وإذ إن الأمر كذلك . . التدبير تدبير الله . والنصر من عند الله . والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر . والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة . . فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا ؛ وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة ؛ وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير ، وصاحب العون والمدد ، وصاحب القوة والسلطان ؛ وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة ؛ وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل ؛ وليحترزوا من خداع الشيطان ، الذي أهلك أولئك الكفار ؛ وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم :
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا . واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله ؛ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط . وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال : إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب . إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم ! ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم )
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات ، وقواعد وتوجيهات ، وصور ومشاهد ؛ وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة ، وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر . . مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ؛ ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد !
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء ، وإلى التزود بزاد النصر ؛ والتأهب بأهبته .
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط ) .
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية : الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ؛ وأنه يألم كما يألمون ، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه ! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين : الشهادة أو النصر ? بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها ، ولا حياة له سواها ? !
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة ، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة ، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي ، قولهم : ( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين ) . .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل ، وهي تواجه جالوت وجنوده : ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا : ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . .
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ؛ فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في " أحد " ؛ فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم ، كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها : ( الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل )
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى : إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها ، فهي معركة لله ، لتقرير ألوهيته في الأرض ، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ؛ وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ؛ لا للسيطرة ، ولا للمغنم ، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ؛ يحققها هذا التعليم الرباني .
هذا تعليم الله{[13037]} عباده المؤمنين آداب اللقاء ، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء ، [ فقال ]{[13038]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا }
ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال : " يا أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا{[13039]} واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " . ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " اللهم ، مُنزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم " {[13040]}
وقال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية
فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن أجلبوا{[13041]} وضجوا{[13042]} فعليكم بالصمت{[13043]}
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا أمية بن بِسْطام ، حدثنا معتمر بن سليمان ، حدثنا ثابت بن زيد ، عن رجل ، عن زيد بن أرقم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن ، وعند الزَّحف ، وعند الجنازة " {[13044]}
وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى : " إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه{[13045]} أي : لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتي .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في هذه الآية ، قال : افترض{[13046]} الله ذكره عند أشغل ما تكونون{[13047]} عند الضراب بالسيوف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُريج ، عن عطاء قال : وجب الإنصات والذكر عند الزحف ، ثم تلا هذه الآية ، قلت : يجهرون بالذكر ؟ قال : نعم .
وقال أيضًا : قُرئ علي يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش{[13048]} عن يزيد بن قوذر ، عن كعب الأحبار قال : ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قال الشاعر : ذكرتك والخَطى يخطرُ بَيْنَنَا *** وَقَد نَهَلَتْ فِينَا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
وقال عنترة : {[13049]}
ولَقَد ذَكَرْتُك والرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ *** فِينَا وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُر منْ دَمِي [ فوددت تقبيل السيوف لأنها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسم ]{[13050]}
هذا أمر بما فيه داعية النصر وسبب العز ، وهي وصية من الله متوجهة بحسب التقييد التي في آية الضعف{[5386]} ، ويجري مع معنى الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا »{[5387]} .
قال القاضي أبو محمد : وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى ، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق ، و «الفئة » الجماعة أصلها فئوة وهي من فأوت أي جمعت ، ثم أمر الله تعالى بإكثار ذكره هنالك إذ هو عصمة المستنجد ووزر{[5388]} المستعين ، قال قتادة : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه إذا كان إلغاطاً{[5389]} ، فأما إن كان من الجمع عند الحملة فحسن فاتٌّ في عضد العدو ، وقال قيس بن عباد : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث : عند قراءة القرآن وعند الجنازة والقتال ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال وإقامة الصلاة ونزول الغيث »{[5390]} ، وقال ابن عباس يكره التلثم عند القتال .
قال القاضي أبو محمد : ولهذا والله أعلم يتسنن{[5391]} المرابطون بطرحه عند القتال على ضنانتهم به و { تفلحون } تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم ، وهذا مثل قول لبيد : [ الرجز ]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضْ*** ضعف وقد يخدع الأريب{[5392]}
لمّا عرّفهم الله بنعمه ودلائل عنايته ، وكشف لهم عن سرّ من أسرار نصره إيّاهم ، وكيف خذل أعداءهم ، وصرفهم عن أذاهم ، فاستتبَّ لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم ، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيءّ لهم النصر في المواقع كلّها ، ويستدعي عناية الله بهم وتأييدَه إيّاهم ، فجمع لهم في هذه الآية ما به قِوام النصر في الحروب . وهذه الجمل معترضة بين جملة : { وإذ يريكموهم } [ الأنفال : 44 ] وجملة : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] .
وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماماً بها ، وجُعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى ، لأنّ ذلك أخصّ صفاتهم تلقاءَ أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } [ النور : 51 ] .
واللقاء : أصله مصادفة الشخص ومواجهته ، باجتماع في مكان واحد ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات } [ البقرة : 37 ] وقوله : { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة [ البقرة : 223 ] . وقد غلب إطلاقه على لقاء خاصّ وهو لقاء القتال ، فيرادف القتال والنزال .
وقد تقدم اللقاء قريباً في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا } [ الأنفال : 15 ] وبهذا المعنى تعيّن أنّ المراد بالفئة : فئة خاصّة وهي فئة العدوّ ، يعني المشركين .
و« الفئة » الجماعة من الناس ، وقد تقدّم اشتقاقها عند قوله تعالى : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } في سورة [ البقرة : 249 ] .
وذكِر الله ، المأمور به هنا : هو ذكره باللسان ، لأنّه يتضمّن ذكر القلب ، وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه ، وسَمِع الذكرَ بسمعه ، وذكَّر مَن يليه بذلك الذّكر ، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد ، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهرُ وصفهِ بكثير لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة ، والمقصود تذكر أنّه الناصر . وهذان أمران أمروا بهما وهما يَخصّان المجاهد في نفسه ، ولذلك قال : { لعلكم تفلحون } . فهما لإصلاح الأفراد ، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم ، وهي علائق بعضهم مع بعض ، وهي الطاعة وترك التنازع ، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين ، مثل الغنائم . وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من آراء الحرب ، كقوله للرُّماة يوم أحد : " لا تبرحوا من مكانكم ولو تَخَطَّفَنَا الطيرُ " وتشمل طاعةُ الرسول عليه الصلاة والسلام طاعةَ أمرائه في حياته ، لقوله : " ومن أطاع أميري فقد أطاعني " وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغَيبة عن شخصه .
وأمّا النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك : بالتفاهم والتشاور ، ومراجعة بعضهم بعضاً ، حتّى يصدروا عن رأي واحد ، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } [ النساء : 83 ] . وقوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] . والنهي عن التنازع أعّم من الأمر بالطاعة لوُلاَة الأمور : لأنّهم إذا نهوا عن التنازع بينهم ، فالتنازع مع ولي الأمر أَوْلَى بالنهي .
ولمّا كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء ، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسَطَ القرآن القولَ فيه ببيان سيّىءِ آثاره ، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله : { فتفشلوا وتذهب ريحكم } فحذّرهم أمرين معلوماً سوءُ مَغبتهما : وهما الفشلَ وذهاب الريح .
والفشل : انحطاط القوة وقد تقدّم آنفاً عند قوله : { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } [ الأنفال : 43 ] وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدوّ ، ويصحّ أن يكون تمثيلاً لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه ، في انعدام إقدامه على العمل . وإنّما كان التنازع مفضياً إلى الفشل ؛ لأنّه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم ، ويحدث فيهم أن يتربّص بعضهم ببعض الدوائرَ ، فيَحدث في نفوسهم الإشتغال باتّقاء بعضهم بعضاً ، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال ، فيصرف الأمّة عن التوجّه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم ، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم ، فيتمكّن منهم العدوّ ، كما قال في سورة [ آل عمران : 152 ] { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم }
والريح حقيقتها تحرّك الهواء وتموّجه ، واستعيرت هنا للغلبة ، وأحسب أنّ وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أنّ الريح لا يمانع جَريها ولا عملَها شيء فشبه بها الغلب والحكم وأنشد ابن عطية ، لعَبيد بن الأبرص :
كما حميناك يوم النعب من شطب *** والفضل للقوم من ريح ومن عدد
وفي الكشّاف } قال سليك بن السلكة
يــا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَ حيَّ بالوادي *** إلاّ عبيدٌ قعودٌ بين أذواد
هل تنظران قليلاً ريثَ غفلتهم *** أو تعدوان فإنّ الريح للعادي
وقال الحريري ، في ديباجة « المقامات » : « قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدَت في هذا العصر ريحه » .
والمعنى : وتَزولَ قوتكم ونفوذُ أمركم ، وذلك لأنّ التنازع يفضي إلى التفرّق ، وهو يوهن أمر الأمّة ، كما تقدّم في معنى الفشل .