فتمنوا الرجوع و { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } يريدون الموتة الأولى وما بين النفختين على ما قيل أو العدم المحض قبل إيجادهم ، ثم أماتهم بعدما أوجدهم ، { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي : تحسروا وقالوا ذلك ، فلم يفد ولم ينجع ، ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة ، فقيل لهم :
ثم يحكى - سبحانه - ما يقوله الكافرون بعد أن أنزل بهم - سبحانه - عقابه العادل فيقول : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين . . . } .
وأرادوا بالموتة الأولى : خلقهم من مادة لا روح فيها وهم فى بطون أمهاتهم . . وأرادوا بالثانية : قبض أرواحهم عند انقضاء آجالهم .
وأرادوا بالحياة الأولى : نفخ أرواحهم فى أجسادهم وهى فى الأرحام ، وأرادوا بالثانية إعادتهم إلى الحياة يوم البعث ، للحساب والجزاء .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ . . . } { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } أى : أنت يا ربنا الذى - بقدرتك وحدها - أمتنا إماتتين اثنتين ، وأحييتنا إحياءتين اثنتين ، وها نحن قد اعترفنا بذنوبنا التى وقعت منا فى الدنيا ، وندمنا على ما كان منا أشد الندم . .
{ فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } أى : فهل بعد هذا الاعتراف ، فى الإِمكان أن تخرجنا من النار ، وأن تعيدنا إلى الحياة الدنيا ، لنؤمن بك حق الإِيمان . ونعمل غير الذى كنا نعمل .
فأنت ترى أن الآية تصور ذلهم وحسرتهم أكمل تصوير ، وأنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم ، ولكن هذا التمنى والتلهف جاء بعد فوات الأوان .
قال ابن كثير ما ملخصه : هذه الآية كقوله - تعالى - :
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ . . . } وهذا هو الصواب الذى لا شك فيه ولا مرية .
وقال السدى : أميتوا فى الدنيا ثم أحيوا فى قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة .
وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم ، ثم خلقهم فى الأرحام . ثم أماتهم يوم القيامة .
وهذا القولان ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات .
والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدى الله ، كما قال - تعالى - { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ }
والآن - وقد سقط عنهم غشاء الخداع والضلال - يعرفون أن المتجه لله وحده فيتجهون :
( قالوا : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، فاعترفنا بذنوبنا ، فهل إلى خروج من سبيل ) . .
وهي كلمة الذليل اليائس البائس . . ( ربنا ) . . وقد كانوا يكفرون وينكرون . أحييتنا أول مرة فنفخت الروح في الموات فإذا هو حياة ، وإذا نحن أحياء . ثم أحييتنا الأخرى بعد موتنا ، فجئنا إليك . وإنك لقادر على إخراجنا مما نحن فيه . وقد اعترفنا بذنوبنا . ( فهل إلى خروج من سبيل ? ) . بهذا التنكير الموحي باللهفة واليأس المرير .
وقوله : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال الثوري ، عن أبي{[25448]} إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود [ رضي الله عنه ]{[25449]} : هذه الآية كقوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] وكذا قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو مالك . وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية .
وقال السّدّي : أُميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة .
وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم ، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم [ ثم أحياهم ] {[25450]} يوم القيامة .
وهذان القولان - من السدي وابن زيد - ضعيفان ؛ لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات . والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما . والمقصود من هذا كله : أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله ، عز وجل ، في عرصات القيامة ، كما قال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] ، فلا يجابون . ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ، ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنَّكال ، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة ، فلا يجابون ، قال الله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون } [ الأنعام : 27 ، 28 ] فإذا دخلوا النار وذاقوا مَسّها وحَسِيسها ومقامعها وأغلالها ، كان سؤُالهم للرجعة أشد وأعظم ، { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] ، { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ . قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 107 ، 108 ] ، وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال ، وقدموا بين يدي كلامهم مُقدّمة ، وهي قولهم : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } أي : قدرتك عظيمة ، فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا ، ثم أمتنا ثم أحييتنا ، فأنت قادر على ما تشاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا ، { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا ؟ فإنك قادر على ذلك ؛ لنعمل غير الذي كنا نعمل ، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون . فأُجِيبُوا ألا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا .
{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين } إماتتين بأن خلقتنا أمواتا ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا ، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير والتكبير ، ولذلك قيل سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل ، وإن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير وصرف له عن الآخر . { وأحييتنا اثنتين } الإحياءة الأولى وإحياءة البعث . وقيل الإماتة الأولى عند انخرام الأجل والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال والإحياءان ما في القبر والبعث ، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ولذلك تسبب بقوله : { فاعترفنا بذنوبنا } فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث . { فهل إلى خروج } نوع خروج من النار . { من سبيل } طريق فنسلكه وذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللا وتحيرا .
جواب عن النداء الذي نودوا به من قِبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف ، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجاً من العذاب خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن ، وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالاً عليهم .
والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذُكِرْن إِدماجاً للاسْتدلال في صُلب الاعتراف تزلفاً منهم ، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع لأنه حاصل عن دليل ، ولذلك جعل مسبباً على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله : { فاعترفنا بذُنُوبنا } .
والمراد بإحدى الموتتين : الحالةُ التي يكون بها الجنين لَحْماً لا حياة فيه في أول تكوينه قبل أن يُنفخ فيه الروح ، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة ، فإطلاقه على حالة إنعدام الحياة قبلَ حصولها فيه استعارةٌ ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال { أمتنا } في حقيقته ومجازه ، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعاً لِجريان الاستعارة في المصدر ، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترككِ في معنييه ، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلاً بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحاً ، وتقدم في قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } في سورة [ البقرة : 28 ] ، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليباً للموتة الثانية . وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان .
والمراد بالاحياءتَيْن : الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه ، والإِحياءة الثانية التي تحصل عند البعث ، وهو في معنى قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } [ البقرة : 28 ] .
وانتصب { اثنتين } في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف . والتقدير : موتتين اثنتين وإحياءتَيْن اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يُقيِّد معنى الموت .
وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياةً ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياةُ في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القَبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف ، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال ، وقد يُتأول بسؤال روح الميت عِند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإِحياء في هذا العالم ، لم يعتد بها لاسيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم ، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر .
وتفرع قولهم : { فاعترفنا بذُنُوبنا } على قولهم : { وأحييتنا اثنتين } اعتبار أن إحدى الإِحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة .
فجملة { فاعترفنا بذُنُوبنا } إنشاء إقرار بالذنوب ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإِنشاء مثل صيغ العقود نحو : بعتُ . والمعنى : نعترف بذنوبنا .
وجعلوا هذا الاعتراف ضرباً من التوبة توهماً منهم أن التوبة تنفع يومئذٍ ، فلذلك فرعوا عليه : { فَهَل إلى خُرُوج مِن سبيل } ، فالاستفهام مستعمل في العَرض والاستعطاف كلياً لرفع العذاب ، وقَد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروجَ أو التخفيف ولو يوماً .
والاستفهام بحرف { هَل } مستعمل في الاستعطاف . وحرف { مِن } زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج وشأن زيادة { مِن } أن تكُون في النفي وما في معناه دون الاثبات . وقد عُدّ الاستفهام ب { هل } خاصة من مواقع زيادة { مِن } لتوكيد العموم كقوله تعالى : { وتقول هل من مزيد } [ ق : 30 ] ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } في سورة [ الأعراف : 53 ] ، وأن وجه اختصاص { هَل بوقوع مِن الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي ، وزيادةُ من حينئذٍ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي ، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال .
وتنكير خروج للنَّوعية تلطفاً في السؤال ، أي إلى شيء من الخروج قليللٍ أو كثير لأن كل خروج يتنفعون به راحةٌ من العذاب كقولهم : { ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } [ غافر : 49 ] .
والسبيل : الطريق واستعير إلى الوسيلة التي يحصل بها الأمر المرغوب ، وكثُر تصرف الاستعمال في إطلاقات السبيل والطريق والمسلك والبلوغ على الوسيلة وبحصول المقصود .
وتنكير { سبيل } كتنكير { خروج } أي من وسيلة كيف كانت بحق أو بعفو بتخفيف أو غير ذلك .
قال في « الكشاف » « وهذا كلامُ من غلب عليه اليأس والقنوط » يريد أَنَّ في اقتناعهم بخروج مَّا دلالة على أنهم يستبعدون حُصول الخروج .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} يعني كانوا نطفا فخلقهم فهذه موتة وحياة، وأماتهم عند آجالهم، ثم بعثهم في الآخرة، فهذه موتة وحياة أخرى، فهاتان موتتان وحياتان.
{فاعترفنا بذنوبنا} بأن البعث حق {فهل إلى خروج من سبيل} قالوا: فهل لنا كرة إلى الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... عن ابن عباس، قوله:"رَبّنا أمَتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ" قال: هو كقوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنتُمْ أمْوَاتا... "الآية...
عن أبي مالك في هذه الآية أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا، ثم أحييتنا...
وقال آخرون:...عن السديّ، قوله: "أمتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ" قال: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا أو خوطبوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة.
وقال آخرون:... قال ابن زيد، في قوله "رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ" قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: "وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ"، فقرأ حتى بلغ "المُبْطِلُونَ" قال: فنسّاهم الفعل، وأخذ عليهم الميثاق... قال: فلما أخذ عليهم الميثاق، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: "رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا"...
وقوله: "فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا" يقول: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا، "فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ" يقول: فهل إلى خروج من النار لنا سبيل، لنرجع إلى الدنيا، فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الكفار يعترفون بذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا لا يمكنهم جحدها، وإنما تمنوا الخروج مما هم فيه من العذاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
المقصود من هذا كله: أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله، عز وجل، في عرصات القيامة...وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال، وقدموا بين يدي كلامهم مُقدّمة، وهي قولهم: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي: قدرتك عظيمة، فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا، ثم أمتنا ثم أحييتنا، فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا.
{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك؛ لنعمل غير الذي كنا نعمل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث، وكانوا قد استقرأوا العوائد، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد، من أن كل ثان لا بد له من ثالث، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب: {قالوا ربنا} أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا.
{أمتَّنا اثنتين} قيل: واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} [آية: 28] وأما الصعق فليس بموت، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم، وسورة البقرة {وأحييتنا اثنين} واحدة في البطن، وأخرى بالبعث بعد الموت، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق، أو الإقامة في القبر.
{بذنوبنا} الحاصلة بسبب إنكار البعث؛ لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى، فذلك توبة لنا.
{فهل إلى خروج} أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً.
{من سبيل} فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياءة ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فهل إلى خروج من سبيل؟) بهذا التنكير الموحي باللهفة واليأس المرير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب عن النداء الذي نودوا به من قِبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجاً من العذاب، خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن؛ وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالاً عليهم.
والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية؛ لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذُكِرْن إِدماجاً للاسْتدلال في صُلب الاعتراف تزلفاً منهم، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق، وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع؛ لأنه حاصل عن دليل، ولذلك جعل مسبباً على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله: {فاعترفنا بذُنُوبنا}...
وتفرع قولهم: {فاعترفنا بذُنُوبنا} على قولهم: {وأحييتنا اثنتين} اعتبار أن إحدى الإِحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة.
فجملة {فاعترفنا بذُنُوبنا} إنشاء إقرار بالذنوب، ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإِنشاء مثل صيغ العقود نحو: بعتُ، والمعنى نعترف بذنوبنا، وجعلوا هذا الاعتراف ضرباً من التوبة توهماً منهم أن التوبة تنفع يومئذٍ، فلذلك فرعوا عليه: {فَهَل إلى خُرُوج مِن سبيل}، فالاستفهام مستعمل في العَرض والاستعطاف كلياً لرفع العذاب، وقَد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروجَ أو التخفيف ولو يوماً. والاستفهام بحرف {هَل} مستعمل في الاستعطاف.
وحرف {مِن} زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج. وشأن زيادة {مِن} أن تكُون في النفي وما في معناه دون الاثبات، وقد عُدّ الاستفهام ب {هل} خاصة من مواقع زيادة {مِن} لتوكيد العموم كقوله تعالى: {وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وأن وجه اختصاص {هَل بوقوع مِن الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي، وزيادةُ من حينئذٍ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال. وتنكير خروج للنَّوعية تلطفاً في السؤال، أي إلى شيء من الخروج قليلٍ أو كثير؛ لأن كل خروج يتنفعون به راحةٌ من العذاب كقولهم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49]...
لنفهم معنى {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} لابدَّ أن نعرف ما هو الموت أولاً، الموت هو إذهاب الحياة بعد أنْ كانت موجودة، فما دام سيكون الموت فهو دليل على الحياة قبله، والموت أيضاً يعني عدم الحياة مطلقاً، يعني: عدم لم تسبقه حياة مطلقاً.
لذلك قال سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] وهذا استفهام للتعجب يعني: قولوا لنا كيف يتأتَّى منكم الكفر {وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ} [البقرة: 28] أي: كنتم عدماً فوهبكم الحياة {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28] أي: يُذهب الحياة الموجودة {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] أي: في الآخرة.
إذن: فالموت مرتان والحياة مرتان كذلك، والخلاف في هذه المسألة: أيكون الموت بعد حياة؟ أم يكفي أن يكون عدمٌ تأتي بعده الحياة؟ نقول: الموت هو العدم المطلق، سواء كان قبله حياة أم لم تكن قبله حياة...
إذن: الآية جمعت بين المعنيين: الموت المطلق أو العدم الذي لم تسبقه حياة، والموت بمعنى نَقْض الحياة الموجودة بالفعل، فقال سبحانه: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}.
بعضهم يرى أن الموت الأول هو إذهاب الحياة بعد انقضاء الأجل، ثم يحيا في القبر للسؤال ثم يموت في القبر ثم يُبعث يوم القيامة، والأول الذي اخترناه أليق.
وقوله سبحانه: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}، الاستفهام في {فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} استفهام للتمني لكن هيهات، فلو رُدُّوا لَعَادوا لما كانوا عليه، فلا فائدةَ من تكرار هذه التجربة، والحق سبحانه بيَّن هذه المسألة في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 100].
ولو رُدُّوا لعادوا بطباع الشر فيهم وكفروا، والخروج أي من المأزق الذي نحن فيه ومن العذاب الذي نعاينه {مِّن سَبِيلٍ} من طريق للخروج وللنجاة.
هذا الذي ذكرناه خاصٌّ بحياة القوالب وموتها، أما حياة القلوب والأرواح فلها طريق آخر، ذكره الحق سبحانه في قوله: {يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
لا شكَّ أنه سبحانه يخاطبهم وهم أحياء الحياة المادية إذن: هناك حياة أخرى يدعوهم إليها، إنها حياةُ المعنويات التي لا يأتي بعدها موت وهي الحياة في الجنة.
إذن: عندنا حياة للمادة بها تحيا وتتحرك وتأكل وتشرب وتنشط، وهناك حياة أخرى معنوية بها تدخل الجنة حيث نعيمٌ بلا فَوْت، وحياة بلا موت. الحياة المادية لها روح تناسبها وهي حياة تنتهي بالموت، أما حياة القيم والمعنويات فلا بدَّ لها من روح عُلْوية تأتي بالالتزام بالمنهج في: افعل ولا تفعل، لذلك يسميها الله روحاً: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وسمُّي مَنْ يحملها روحاً: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].
وكل من الحياتين لها ما يناسبها من البقاء، فالأولى موقوتة بالأجل، والأخرى ممتدة باقية؛ لذلك قلنا في الشهيد الذي جاد بنفسه وأنهى حياته في سبيل منهجه أن الله يُجازيه على ذلك بأنْ يعصمه من الموت بعد ذلك.