{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي : شق عليك ، من حرصك عليهم ، ومحبتك لإيمانهم ، فابذل وسعك في ذلك ، فليس في مقدورك ، أن تهدي من لم يرد الله هدايته .
{ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } أي : فافعل ذلك ، فإنه لا يفيدهم شيئا ، وهذا قطع لطمعه في هدايته أشباه هؤلاء المعاندين .
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } ولكن حكمته تعالى ، اقتضت أنهم يبقون على الضلال . { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } الذين لا يعرفون حقائق الأمور ، ولا ينزلونها على منازلها .
{ 36 ، 37 } { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
ثم بين - سبحانه - أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } .
كبر عليك : أى شق وعظم عليك . والنفق : السرب النافذ فى الأرض الذى يخلص إلى مكان .
والمعنى : وإن كان - يا محمد - قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سبباً فى إيمانهم ، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقاً فى جوف الأرض ، أو مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد شيئاً لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك ، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عناداً وجحوداً .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } .
أى : لو شاء الله جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل ، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا ، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا ، فلا تكونن من الجاهلين بحكمة الله فى خلقه ، وبسننه التى اقتضاها علمه .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله [ ص ] من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :
( وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ، أو سلما في السماء ، فتأتيهم بآية ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون ) . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم !
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، فأتهم بآية !
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه
( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين ) .
يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي : إن كان شق عليك إعراضهم عنك { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النَّفقُ : السّرْب ، فتذهب فيه { فَتَأْتِيَهُمْ{[10663]} بِآيَةٍ } أو تجعل لك سلمًا في السماء فتصعد فيه فتأتيهم{[10664]} بآية أفضل مما آتيتهم به ، فافعل .
وكذا قال قتادة ، والسُّدِّي ، وغيرهما .
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ] {[10665]} } [ يونس : 99 ] ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه{[10666]} على الهدى ، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول .
{ وإن كان كبر عليك } عظم وشق . { إعراضهم } عنك وعن الإيمان بما جئت به . { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية } منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية ، أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية ، وفي الأرض صفة لنفقا وفي السماء صفة لسلما ، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل ، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته ، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة . { فلا تكونن من الجاهلين } بالحرص على ما لا يكون ، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن كان كبر عليك}: ثقل عليك {إعراضهم} عن الهدى، ولم تصبر على تكذيبهم إياك، {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض}، يعني سربا، {أو سلما في السماء}، أي فإن لم تستطع فأت بسلم ترقى فيه إلى السماء، {فتأتيهم بآية} فافعل إن استطعت، ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم، فقال: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}، فإن الله لو شاء لجعلهم مهتدين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحقّ الذي بعثتك به، فشقّ ذلك عليك ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم "فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقا فِي الأرْضِ": فإن استطعت أن تتخذ سَرَيا في الأرض، مثل نافقاء اليربوع، وهي أحد جِحَرَتِه، فتذهب فيه "أوْ سُلّما فِي السّماءِ": أو مصعدا تصعد فيه كالدرج وما أشبهها،
"فَتَأْتِيَهُمْ بآيَةٍ "يعني بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي أتيتك، فافعل... وترك جواب الجزاء، فلم يذكر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامعين بمعناه، وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يفهم معناه عند المخاطبين به... "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى فَلا تَكُونَنّ مِنَ الجاهِلِينَ": إن الذين يكذّبونك من هؤلاء الكفار يا محمد فيحزنك تكذيبهم إياك، لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدين وصواب من محجة الإسلام حتى تكون كلمة جميعكم واحدة وملتكم وملتهم واحدة، لجمعْتهم على ذلك، ولم يكن بعيدا عليّ لأني القادر على ذلك بلطفي، ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي ونافذ قضائي فيهم من قبل أن أخلقهم وأصوّر أجسامهم. "فَلا تَكُونَنّ يا محمد مِنَ الجاهِلِينَ": فلا تكوننّ ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى من الكافرين به اختيارا لا اضطرارا، فإنك إذا علمت صحة ذلك لم يكبر عليك إعراض من أعرض من المشركين عما تدعوه إليه من الحقّ وتكذيب من كذّبك منهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن كان كبر عليك إعراضهم} إذ كان يكبر عليه، ويثقل إعراضهم لما يطلبون منه الآيات. حتى إذا جاء بها لا يؤمنون من نحو ما قالوا {ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه} [الإسراء: 93] وغير ذلك من الآيات التي سألوها. فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيمانهم إذا جاء بما سألوا من الآيات، فكان الله عالما بأنه، وإن جاءتهم آيات، لم يؤمنوا. وإنما يسألون سؤال تعنت لا سؤال طلب آيات لتدلهم على الهدى. فقال عند ذلك: {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء} أي أن يكون قوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض} نهيا عن الحزن عليهم؛ أي لا تحزن عليهم كل هذا الحزن بما ينزل بهم، وقد تعلم صنيعهم وسوء معاملتهم آيات الله...
وقوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} قال الحسن: أي {ولو شاء الله} لقهرهم على الهدى، وأكرههم كما فعل بالملائكة [إذ من قوله: أن الملائكة] مجبورون مقهورون. ثم هو يفضل الملائكة على البشر، ويجعل لهم مناقب، لا يجعل ذلك لأحد من البشر. فلو كانت الملائكة مجبورين مقهورين على ذلك لم يكن في ذلك لهم كبير منقبة، ففي قوله اضطراب. وأما تأويله عندنا: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أي لجمعهم جميعا بحيث اختاروا الهدى، وآثروه على غيره. ولكن لما علم منهم أن يختاروا الكفر على الهدى لم يشأ أن يجمعهم على الهدى، وقد ذكرنا هذا في ما تقدم ألا يكون الهدى في حال القهر والجبر، وإنما يكون في حال الاختيار. وقوله تعالى: {فلا تكونن من الجاهلين} يحتمل وجوها؛ يحتمل {فلا تكونن من الجاهلين} من قضاء الله وحكمه، ويحتمل: {فلا تكونن من الجاهلين} من إحسانه وفضله، أي من إحسانه جعل لهم الهدى، ويحتمل: {فلا تكونن من الجاهلين} أنه يؤمن بك بعضهم، وبعضهم لا يؤمن. قال أبو بكر الكيسائي في قوله {ولو شاء الله} ابتلاهم بدون ما ابتلاهم به ليخف عليهم، فيجيبون بأجمعهم، أو يقول: {ولو شاء الله} لوفقهم جميعا للهدى، فيهتدون، وهو قولنا. لكن لم يشأ لما ذكرنا أنه لم يوفقهم لما علم منهم أنهم يختارون الكفر. وقوله تعالى: {فلا تكونن من الجاهلين} بأن الله قادر؛ لو شاء لجعلهم جميعا مهتدين. ثم معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوما، لا يجوز أن يقال: إنه يكون من الجاهلين أو من الشاكين على ما ذكر. ولكن ذكر هذا، والله أعلم، ليعلم أن العصمة لا ترفع الأمر والنهي والامتحان، بل تزيد. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإن كان كبر} عظم وثقل {عليك إعراضهم} عن الإيمان بك وبالقرآن وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان قومه فكانوا إذا سألوه آية أحب أن يريهم ذلك طمعا في إيمانهم فقال الله عز وجل {فإن استطعت أن تبتغي} تطلب {نفقا} سربا {في الأرض أو سلما} مصعدا {في السماء فتأتيهم بآية} فافعل ذلك والمعنى أنك بشر لا تقدر على الإتيان بالآيات فلا سبيل لك إلا الصبر حتى يحكم الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل: {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} [الشعراء: 3]، {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِي الأرض} منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها {أَوْ سُلَّماً فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ} منها {بآية} فافعل. يعني أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه، وله ذلك كله بحق ملكه {فلا تكونن من الجاهلين} في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه...
و {تأتيهم بآية} أي بعلامة، ويريد إما في فعلك ذلك، أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء، وإما أن {تأتيهم بالآية} من إحدى الجهتين، وحذف جواب الشرط قبل في قوله {إن استطعت} إيجاز لفهم السامع به، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم، و {لجمعهم} يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم، و [الهدى]: الإرشاد، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر، وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه، تعالى عن قولهم، و {من الجاهلين} يحتمل في أن لا يعلم أن الله {لو شاء لجمعهم} ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {فلا تكونن من الجاهلين} وبين قوله لنوح عليه السلام {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} وقد تقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، قال مكي والمهدي: والخطاب بقوله {فلا تكونن من الجاهلين} للنبي عليه السلام والمراد به أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: ُوِّقر نوح لسنه وشيبته، وقال قوم: جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل المعاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب. قال القاضي أبو محمد: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجئ بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما، وبين أن الأمر الذي نهي عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدراً وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم...
والمعنى، وإن كان كبر عليك إعراضهم عن الإيمان بك، وصحة القرآن، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فافعل. فالجواب محذوف وحسن هذا الحذف لأنه معلوم في النفوس. والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر، ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يثقب الأرض إلى القعر، ثم يصعد من ذلك القعر إلى وجه الأرض من جانب آخر، فكأنه ينفق الأرض نفقا، أي يجعل له منفذا من جانب آخر. ومنه أيضا سمي المنافق منافقا لأنه يضمر غير ما يظهر كالنافقاء الذي يتخذه اليربوع وأما السلم فهو مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك، والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم، وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فتسلّ واصبر كما صبروا، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله: {وإن كان كبر} أي عظم جداً {عليك إعراضهم} أي عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولنا {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} [الأنعام: 4] وأردت أن تنتقل -في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات- من علم اليقين إلى عين اليقين {فإن استطعت أن تبتغي} أي تطلب بجهدك وغاية طاقتك {نفقاً} أي منفذاً {في الأرض} تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه {أو سلماً في السماء} أي جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه {فتأتيهم بآية} أي مما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك، لأن الله قد شاء ضلال بعضهم، والمراد بهذا بيان شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل. ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئاً في القدرة، نفاه إرشاداً إلى تقدير ما قدرته فقال: {ولو شاء الله} أي الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة {لجمعهم على الهدى} أي لأن قدرته شاملة، وإيمانهم في حد ذاته ممكن، ولكنه قد شاء افتراقهم بإضلال بعضهم؛ ولما كان صلى الله عليه وسلم -بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره- حريصاً على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلاً عن القريب، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة -كما أفاده الحرالي- من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم، سبب عن ذلك قوله: {فلا تكونن} فأكد الكلام سبحانه ليعلم صلى الله عليه وسلم أنه قد حتم بافتراقهم، فيسكن إلى ذلك ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم {من الجاهلين} أي إنك أعلم الناس مطلقاً ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره، فكيف بمن بلوتهم ناشئاً وكهلاً ويافعاً! فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه، فإن ما شاءه لا يكون غيره، فهذه الآية وأمثالها -مما في ظاهره غلظة- من الدلالة على عظيم رتبته صلى الله عليه وسلم ومن لطيف أمداح القرآن له -كما يبين إن شاء الله تعالى في سورة التوبة عند قوله تعالى عفا الله عنك} [التوبة: 43].
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية} مما اقترحوه عليك من الآيات ليؤمنوا فافعل أو فأتهم بها. يقال كبر على فلان الأمر أي عظم عنده وشق عليه وقعه. والإعراض التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، وهو من إبداء المرء عرضه عند توليه عن الشيء واستدباره له، واستطعت الشيء: صار في طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله، والابتغاء طلب ما في طلبه كلفة ومشقة أو تجاوز للمعتاد أو للاعتدال، أو طلب غايات الأمور وأعاليها، لأنه افتعال من البغي وهو تجاوز الحد في الطلب أو الحق. ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله وهو غاية الكمال، وفي الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال؛ والنفق السرب في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج، كنافقاء اليربوع وهو جحره يجعل له منافذ يهرب من بعضها إذا دخل عليه من غيره ما يخافه، والسلم المرقاة مشتق من السلامة، قال الزجاج لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك. وتذكيره أفصح من تأنيثه وإنما يؤنث بمعنى الآلة. وأتى بكان فعلا للشرط ليبقى الشرط على المضيّ ولا ينقلب مستقبلا كما قالوا، فإن « إن» لا تقلب « كان» مستقبلا لقوة دلالته على المضي. والنحوي يؤول مثل هذا التركيب بنحو: وإن تبين وظهر أنه كبر عليك إعراضهم. وجواب الشرط محذوف للعلم به تقديره فافعل كما تقدم...
{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (35)} أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه بجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة، أو بخلقهم على استعداد واحد للخير والحق فقط، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار، باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، كما اقتضته حكمته في خلق الناس، ولكنه شاء أن يخلق البشر على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت في الاستعداد، وما يترتب عليه من اختلاف أسباب الاختيار؛ -فإذا عرفت سنته هذه في خلق هذا النوع، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن من القوم الجاهلين بسنن الله تعالى في خلقه، الذين يتمنون ما يرونه حسنا ونافعا، وإن كان حصوله ممتنعا، لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية. فالجهل هنا ضد العلم لا ضد الحلم، وليس كل جهل بهذا المعنى عيبا، لأن المخلوق لا يحيط بكل شيء علما، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه، ثم يجهل ما ينبغي له ويعد كمالا في حقه، إذا لم يكن معذورا في جهله. قال تعالى في الفقراء المتعففين: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273] فوصف الجاهل هنا غير ذم، وكان عدم علم خاتم الرسل بالكتابة من أركان آياته، وعدم علمه بالشعر من أدلة الوحي وبيناته، وكل ما يتوقف علمه على الوحي الإلهي لا يكون جهل الرسول إياه قبل نزوله عليه عيبا يذم به، إذ لا يذم الإنسان إلا بما يقصر في تحصيله وكسبه. وقد أمر الله تعالى رسوله بأن يسأله زيادة العلم، وكان يزيده كل يوم علما وكمالا بتنزيل القرآن وبفهمه، وبغير ذلك من العلم والحكمة، ولا يقتضي ذلك الذم قبل هذه الزيادة، وإنما الذي يذم مطلقا هو الجهل المرادف للسفه وهو ضد الحلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة.. وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر، إلا حين يستحضر في كيانه كله: أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم.. النبي الصابر من أولي العزم من الرسل.. الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا، لم يدع عليهم دعوة نوح -عليه السلام- وقد لقي منهم سنوات طويلة، ما يذهب بحلم الحليم!... تلك سنتنا -يا محمد- فإن كان قد كبر عليك إعراضهم، وشق عليك تكذيبهم، وكنت ترغب في إتيانهم بآية.. إذن.. فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء، فأتهم بآية!... إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية. فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول.. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى: إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى -كالملائكة- وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه. وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا. وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها. ولكنه سبحانه -لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله- خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان، لوظيفة معينة، تقتضي -في تدبيره العلوي الشامل- أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة. من بينها التنوع في الاستعدادات، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات. في حدود من القدرة على الاتجاه، بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال.. لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف.. فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى. فلا تكونن من الجاهلين). يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه...
إنك يا محمد رسول من عند الله، ومعك منهج هو معجزات الدالة على صدق ما جئت به، فإن كبر عليك إعراضهم وعظم عليك أن يتولوا ويعرضوا عنك فإن استطعت أن تصنع لنفسك نفقا في الأرض لتأتيهم بآية أو أن تبني سلما لتصعد به إلى السماء طلبا لهذه الآية فافعل، ولكنك لن تستطيع ذلك لأن ذلك فوق حدود قدرتك وسيلقى المشركون والمنافقون العذاب لأنك جئت يا رسول الله تبدد من صولجان سلطتهم الزمنية وتقيم العدل الإيماني. ولذلك حاولوا السخرية منك وإيذاءك. {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما فتأتيهم بآية} (من الآية 35 سورة الأنعام) ولم يقل الحق: فافعل ذلك، كأن المسألة هي تهدئة للرسول؛ لأن الجواب في مثل هذه الحالة معلوم؛ فالرسول لا يجبر أحدا على الإيمان. وإعراض هؤلاء القوم أمر مقصود لواجب الوجود حتى يختبرهم ولو أراد قهرهم لفعل، فلا أحد يتأبى على الله، فالكون كله مطيع لله، الشمس، والقمر، والنجوم، والهواء، والماء، والجبال، والأرض، وكل ما في الكون لله بما في ذلك الحيوان المسخر لخدمة الإنسان. لكنه – سبحانه – أعطى الاختيار للإنسان ليأتي إلى الله محبا. ونعلم أن الحق قد ترك بعضا من المسخرات غير مذللة ليثبت للإنسان إنه لم يذلل الأشياء بحيلته، ولكنه – جل شأنه – هو الذي خلقها وذللها له؛ لذلك نرى الجمل الضخم يجره طفل صغير، ونرى أي رجل مهما تكن قوته يأخذ الحذر والاحتياط من ثعبان صغير. {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72)} (سورة يس). ولو لم يذللها الله فلن يستطيع أحد أن يقترب منها. وأضرب هذا المثل دائما، عندما قال قائل: لماذا خلق الله الذباب؟ فقال رجل من أهل الإشراق: ليذل به الجبابرة؛ فسلطانهم لا يمتد إلى هذه الحشرات. لقد أعطى الحق الإنسان عزة السيادة، وعلمه أيضا أن يتواضع للخالق. ويبلغ الحق سبحانه وتعالى رسوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} (من الآية 35 سور الأنعام) أي أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين. وقد يقول قائل: كيف يخاطب الله رسوله فيقول له: {فلا تكونن من الجاهلين}؟ ونقول: إن الحق حين يقول لرسوله ذلك فهو يقولها لا من مظنة أن يفعلها الرسول؛ فالرسول معصوم من الجهل، ولكن هو قول فيه تنزيه للرسول عن أن يكون في مثل هذا الصنف من الجاهلين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} عنك، فلم تقدّر الظروف الموضوعية المحيطة بك من خلال الأشخاص والأوضاع، ولم تحاول أن تصبر على ذلك في انتظار نضوج التجربة، وانطلاقة المستقبل في خطّ الدعوة، وعشت الشعور بالسقوط الداخلي تحت تأثير حالة المرارة واليأس، أمام ما يقترحون من طلبات، ويطالبون به من معجزات، مما لم يرد الله أن يخضع مسيرة الدعوة له، أو يشغل حركة الأنبياء به، {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ} تلتقطها من أعماق الأرض، أو تتلقفها من آفاق السماء، بعد أن فقدت القدرة على الإتيان بها من سطح الأرض.. فافعل، ولكنك لن تجد شيئاً هناك لو استطعت بلوغ ذلك لأن الله لم يشأ للناس أن يؤمنوا به، إلا من حيث أراد وقدّر، في ما أوحى به إلى الأنبياء، وفي ما أنزله من معجزات، بعيداً عن اقتراحات المقترحين وعن طلبات المعجّزين. {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} بطريقةٍ إلهيّةٍ تكوينيّة كما ألهم الأشياء الكونية قوانينها وسننها الطبيعيّة.. وكما خلق الناس على أشكال معيّنة في اللون والحجم والشكل، ولكنه شاء للإرادة الإنسانية أن تتحرك من موقع الاختيار لينطلق الإنسان بالإيمان من موقع الحريّة في حركة العقيدة في الحياة، فسر في طريقك على هدى الله، ولا تصغ إليهم، وأعرض عنهم، فذلك هو الخط الأصيل في فكرة العمل الرسالي وأسلوبه.. {فلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الذين يفكرون في ردّ التحديات انطلاقاً من اللحظة الحاضرة والانفعالات السريعة، بدلاً من التخطيط للمستقبل الذي يرصد نهايات الأمور عندما يفكرون في بداياتها، لأن القضية ليست في أن تربح هتافات الإعجاب في حماس المتحمّسين، بل القضية هي في أن تثير النتائج العميقة البعيدة المدى في تفكير المفكّرين وجهاد المجاهدين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية يخبر الله نبيّه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي نقص، بل النقص فيهم لأنّهم هم الذين رفضوا قبول الحقّ، لذلك فانّ أي مسعى من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق. ولكن لكيلا يظن أحد أنّ الله غير قادر على حملهم على التسليم يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) أي لو أراد حملهم على الاستسلام والرضوخ لدعوتك والإِيمان بالله لكان على ذلك قديراً. غير أنّ الإِيمان الإِجباري لا طائل تحته، إنّ خلق البشر للتكامل مبني على أساس حرية الاختيار والإِرادة، ففي حالة حرية الاختيار وحدها يمكن تمييز «المؤمن» من «الكافر»، و«الصالح» من «غير الصالح» و«المخلص» من «الخائن» و«الصادق» من «الكاذب». أمّا في الإِيمان الإِجباري فلن يكن ثمّة اختلاف بين الطيب والخبيث، وعلى صعيد الإِجبار تفقد كل هذه المفاهيم معانيها تماماً. ثمّ يقول سبحانه لنبيّه: (فلا تكونن من الجاهلين)، أي لقد قلت هذا لئلا تكون من الجاهلين، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع، ولا يأخذك القلق بسبب كفرهم وشركهم. وما من شك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم هذه الحقائق ولكن الله ذكرها له من باب التطمين وتهدئة الروع، تماماً كالذي نقوله نحن لمن فقد ابنه: لا تحزن فالدنيا فانية، سنموت جميعاً، وأنت ما تزال شاباً ولسوف ترزق بابن آخر، فلا تجزع كثيراً. فلا ريب أنّ فناء دار الدنيا، أو كون المصاب شاباً ليسا مجهولين عنده، ولكنها أُمور تقال للتذكير.