لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } فإن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين لأن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه ، وتعظيم دينه ورسله ، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ، ومناقض له أشد المناقضة .
ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة ، والرسول لا يزيدهم على قوله { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }
وقوله { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } لتوبتهم واستغفارهم وندمهم ، { نُعَذِّبْ طَائِفَةً } منكم { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَانُوا مُجْرِمِينَ } مقيمين على كفرهم ونفاقهم .
وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة ، خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه ، ويستهزئ به وبآياته ورسوله ، فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ، ويعاقبه أشد العقوبة .
وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه أو سنة رسوله الثابتة عنه ، أو سخر بذلك ، أو تنقصه ، أو استهزأ بالرسول أو تنقصه ، فإنه كافر باللّه العظيم ، وأن التوبة مقبولة من كل ذنب ، وإن كان عظيما .
قوله - سبحانه - : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } تأكيد لإِبطال ما أظهروه من معاذير .
والاعتذار معناه محاولة محو أثر الذئب ، مأخوذ من قولهم : اعتذرت المنازل إذا اندثرت وزالت ، لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب إجلاله واحترامه وتوقيره : قبل له على سبيل التوبيخ والتجهيل أيضاً - لا تشتغلوا بتلك المعاذير الكاذبة فإنها غير مقبولة ، لأنكم بهذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أى : قد ظهر كفركم وثبت ، بعد إظهاركم الإِيمان على سبيل المخادعة ، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم معاملة المسلمين بمقتضى نطقكم بالشهادتين فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم بالله وآياتة ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن الاستهزاء بالدين . كما يقول الإِمام الرازى . يعد من باب الكفر ، إذا أنه يدل على الاستخفاف ، والأساس الأول في الإِيمان تعظيم الله - تعالى - بأقصى الإِمكان ، والجمع بينهما محال .
وقوله - تعالى - : { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } بيان لمظهر من مظاهر عدله - سبحانه - ورحمته .
أى : { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ } - أيها المنافقون - بسبب توبتهم وإقلاعهم عن النفاق ، { نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } أخرى منكم بسبب إصرارهم على النفاق واستمرارهم في طريق الفسوق والعصيان .
هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها :
ما جاء عن زيد بن أسلم : " أن رجلاً من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك : ما رأى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً ، وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء ! ! فقال له عوف : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه .
قال زيد : قال عبد الله بن عمر : فنظرت إليه - أى إلى المنافق - متعلقاً بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، فيقول له الرسول - صلى الله عليه وسلم - " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " " .
وعن قتادة قال : " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا : يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ! ! هيهات هيهات .
فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال نبى الله - صلى الله عليه وسلم - " أحسبوا على الركب " فأتاهم فقال لهم . قلتم كذا ، قلتم كذا . فقالوا : " يا نبى الله إنما كنا نخوض ونلعب " فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون .
وقال ابن اسحاق : " كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت . . ومنهم رجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له " مخشى بن حمير " يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك - فقال بعضهم - أتحسبون جلاد بنى الأصفر - أيى الروم - كقتال العرب بعضهم ؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيباً للمؤمنين .
فقال مخضى بن حمير : والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وأننا ننجو أن ينزل فينا قرآن لماقتلكم هذه .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنى - لعمار بن ياسر - أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا . فانطلق إليهم عمار ؛ فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه .
فقال وديعة بن ثابت ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته - يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب .
فقال مخشى بن حمير : يا رسول الله - قعد بى اسمى واسم أبى ، فكان الذي عفى عنه في هذه الاية مخشى بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيداً ، لا يعلم مكانه . فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر " .
هذه بعض الآثار التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، وهى توضح ما كان عليه المنافقون من كذب في المقال ، وجبن عن مواجهة الحقائق .
{ لا تعتذروا } لا تشتغلوا باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب . { قد كفرتم } قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه . { بعد إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان . { إن نعفُ عن طائفة منكم } لتوبتهم وإخلاصهم ، أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء . { نعذّب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } مصرين على النفاق أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء . وقرأ عاصم بالنون فيهما . وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله " وإن تعف " بالتاء والبناء على المفعول ذهابا إلى المعنى كأنه قال : أن ترحم طائفة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين وصفت لك صفتهم: لا تَعْتَذِرُوا بالباطل، فتقولوا كنا نخوض ونلعب. "قَدْ كَفَرْتُمْ "يقول: قد جحدتم الحقّ بقولكم ما قلتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به "بَعْدَ إيمَانِكُمْ" يقول: بعد تصديقكم به وإقراركم به. "إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طائِفَةً" وذُكر أنه عني بالطائفة في هذا الموضع رجل واحد...
عن ابن إسحاق، قال: كان الذي عفي عنه فيما بلغني مخشي بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع...
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: إن نَعْفُ عن طائفة منكم بإنكاره ما أنكر عليكم من قبل الكفر، نعذّب طائفة بكفره واستهزائه بآيات الله ورسوله...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن تتب طائفة منكم فيعفو الله عنه، يعذّب الله طائفة منكم بترك التوبة.
وأما قوله: "إنّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ" فإن معناه: نعذّب طائفة منهم باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي لا تعتذروا فإنه لا يقبل اعتذاركم لما لا عذر لكم في ما تعتذرون بعدما قلتم... أخبر أنه لا يصدقهم فيما اعتذروا لما ظهر كذبهم، وتبين خلافهم. وقوله تعالى: (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يحتمل كفرتم في الباطن بعدما أظهرتم باللسان، ويحتمل (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) حقيقة: قد كفروا بعدما آمنوا. وقوله تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً) قال بعضهم: قوله: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) وذلك أن المنافقين قد آمن منهم من آمن بعد النفاق وتاب، فأخبر أنه إن يعف عنهم يعذب الطائفة الذين لم يؤمنوا ولم يتوبوا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جَرَّدَ العفوَ والعذابَ من عِلَّة الجُرْمِ، وسببَ الفِعْل مِنْ حُجّةِ العبد؛ حيث أَحالَ الأمر على المشيئة.. إذ لو كان الموجِبُ لعفوِه أو تعذيبِه صفةَ العبد لَسَوَّى بينهم عند تساويهم في الوصف، فَلَمَّا اشتركوا في الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذَّب بعضَهم دَلَّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصُّ من يشاء بما يشاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ تَعْتَذِرُواْ}: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم، {قَدْ كَفَرْتُمْ} قد ظهر كفركم باستهزائكم {بَعْدَ إيمانكم} بعد إظهاركم الإيمان. {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، {نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}: مصرين على النفاق غير تائبين منه. أو إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزئوا فلم نعذبهم في العاجل، نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين...
المسألة الأولى: نقل الواحدي عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين:
القول الأول: أنه عبارة عن محو الذنب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست. يقال: مررت بمنزل معتذر، والاعتذار هو الدرس وأخذ الاعتذار منه، لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.
والقول الثاني: حكى ابن الأعرابي أن الاعتذار هو القطع، ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تقطع، وعذرة الجارية سميت عذرة لأنها تعذر أي تقطع، ويقال اعتذرت المياه إذا انقطعت، فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا، قال الواحدي: والقولان متقاربان، لأن محو أثر الذنب وقطع اللوم يتقاربان.
المسألة الثانية: أنه تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفرا، والعقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائز، فثبت أن قولهم {إنما كنا نخوض ونلعب} ما كان عذرا حقيقيا في الإقدام على ذلك الاستهزاء، فلما لم يكن ذلك عذرا في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به لأن المنع عن الكلام الباطل واجب. فقال: {لا تعتذروا} أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم.
المسألة الثالثة: قوله: {قد كفرتم بعد إيمانكم} يدل على أحكام؛ الحكم الأول: أن الاستهزاء بالدين -كيف كان- كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان والجمع بينهما محال.
الحكم الثاني: أنه يدل على بطلان قول من يقول، الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب.
الحكم الثالث: يدل على أن قولهم الذي صدر منهم كفر في الحقيقة، وإن كانوا منافقين من قبل، وأن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالا فحالا. الحكم الرابع: يدل على أن الكفر إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين.
ولقائل أن يقول: القوم لما كانوا منافقين فكيف يصح وصفهم بذلك؟ قلنا: قال الحسن: المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، وقال آخرون: ظهر كفركم للمؤمنين بعد أن كنتم عندهم مسلمين، والقولان متقاربان.
ثم قال تعالى: {إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طائفة}؛
ذكر المفسرون، أن الطائفتين كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك واحد، فالطائفة الأولى الضاحك، والثانية الهازئان. وقال المفسرون: لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه، وذنب الهازئين أغلظ، فلا جرم ما عفا الله عنهما، قال القاضي: هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر، وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام، وأيضا لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر، أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه، فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى، كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام، وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام، ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره، ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر، وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل، فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل...
وقوله: {كانوا مجرمين} يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي، وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز، بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون. واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى، فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ، وأيضا ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل، فأوجب التعذيب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} أي قد كفرتم بهذا الخوض واللعب بعد إيمانكم، فاعتذاركم إقرار بذنبكم، وإنما الاعتذار الإدلاء بالعذر، وهو بالضم ما يراد به محو الذنب وترك المؤاخذة عليه، وأنتم قد جئتم بما يثبت الذنب ويقتضي العقاب، أو هو كما قيل: «عذر أقبح من الذنب». يقال اعتذر إليّ عن ذنبه فعذرته [من باب ضرب]، أي قبلت عذره ورفعت اللوم عنه، وهو على الراجح المختار مأخوذ من عذر الصبي يعذره أي ختنه، فعذره تطهيره بالختان، إذ هو قطع لعذرته أي قلفته التي تمسك النجاسة. فإن قيل: ظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين فكفروا بهذا الاستهزاء الذي سموه خوضا ولعبا، وظاهر السياق أن الكفر الذي يسرونه هو سبب الاستهزاء الذي يعلنونه، قلنا: كلاهما حق، ولكل منهما وجه: فالأول: بيان لحكم الشرع، وهو أنهم كانوا مؤمنين حكماً، فإنهم ادعوا الإيمان، فجرت عليهم أحكام الإسلام، وهي إنما تبنى على الظواهر، والاستهزاء بما ذكر عمل ظاهر يقطع الإسلام ويقتضي الكفر، فبه صاروا كافرين حكما، بعد أن كانوا مؤمنين حكماً. والثاني: وهو ما دل عليه السياق هو الواقع بالفعل، والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله وفي رسوله وفي صفات الله تعالى ووعده ووعيده، وجعلها موضوعا للعب والهزؤ، كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة، وتجري عليه به أحكام الردة، إلا أن يتوب ويجدد إسلامه. ثم قال تعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} الطائفة مؤنث الطائف، من الطوف أو الطواف حول الشيء. والطائفة من الناس الجماعة منهم ومن الشيء القطعة منه، يقال: ذهبت طائفة من الليل ومن العمر، وأعطاه طائفة من ماله، وإذا أريد بالطائفة الجماعة كان أقلها ثلاثة على قول الجمهور في الجمع. والخطاب هنا للمعتذرين أو الجملة المنافقين، فإن كانت هذه الآية مما أمر الله رسوله أن يقوله لهم كالذي قبله فالمراد بالعفو والتعذيب ما يفعله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإلا كان المراد ما سيكون في الآخرة، والمعنى أننا إن نعف عن بعضكم بتلبسهم بما يقتضي العفو وهو التوبة والإنابة [ومنهم مخشي بن حمير] نعذب بعضا آخر باتصافهم بالإجرام ورسوخهم فيه وعدم تحولهم عنه، أي بالإصرار على النفاق وما يستلزمه من الجرائم الظاهرة، وهذا التقسيم عقلي؛ إذ لا يخلو حالهم من التوبة أو الإصرار، فمن تاب من كفره ونفاقه عفي عنه، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به، فإن كان الوعيد من النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه أن هذا ما سننفذ حكم الشرع عليكم به عند الرجوع من دار الحرب إلى دار الإسلام، لأن دار الحرب لا تقام فيها الحدود وأمثالها من الأحكام، والمختار عندنا أنه من الله تعالى، وأن المراد به عفو الله وتعذيبه في الآخرة. وقال الضحاك: يعني أنه إن عفا عن طائفة منهم فليس بتارك الآخرين. فإن قيل: إنه بين سبب التعذيب وهو الإصرار على الإجرام، ولم يبين سبباً للعفو، أفليس هذا دليلاً على أنه لمحض الفضل؟ قلنا: إن ما بينه يدل على ما لم يبينه، فإنه لما ذكر أنهم كفروا بعد إيمانهم، دل على أنهم استحقوا العذاب بكفرهم، فبيانه بعد هذا السبب تعذيب بعضهم دال على أن التعذيب ينتفي بانتفاء هذا السبب، وإنما يكون ذلك بترك النفاق وإجرامه والتوبة منهما، والأدلة العامة تدل على أن الوعيد على الكفر لا بد من نفوذه على من لم يتب منه، وأن الوعيد على الذنوب بعضه ينفذ وبعضه يدركه العفو. وأما عدد من يتوب ويعفى عنه، وعدد من يصر ويعاقب بالفعل من كل من الطائفتين، فيصح أن يكون واحدا أو اثنين أو أكثر، فإن كان واحدا فلا يسمى طائفة وإنما يكون واحدا من الطائفة ممثلا لها، وروي عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزؤوا بالله وبرسوله وبالقرآن، قال: وكان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له يزيد بن وديعة، فنزلت {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} فسمي طائفة وهو واحد اه. وبناء على هذه الرواية قال من قال إن الطائفة من الواحد إلى الألف، وروي عن مجاهد ومن زعم أنها تطلق على الرجل والنفر، وروي عن ابن عباس، وهو غلط، والراوية المذكورة عن الكلبي لا تقتضيه، وهي لا تصح سندا؛ فالكلبي متروك، ولا معنى؛ فإن الذي كان يسير مجانبا لهم لا يتناوله وعيدهم، ولكن المتعلقين بالروايات يحكمونها في العقائد والأحكام، أفلا يحكمونها في اللغة أيضا فيقولون: إن الواحد يسمى طائفة؟ وقد حافظ بعض المفسرين على اللغة في هذه الرواية فقالوا: إن التاء في طائفة للمبالغة كراوية لكثير الرواية، وهو غير ظاهر هنا، وإنما الظاهر ما شرحناه ولله الحمد والمنة. والظاهر أن أكثر أولئك المنافقين قد تابوا واهتدوا بعد نزول هذه السورة التي نبأتهم بما في قلوبهم كما سيأتي قريبا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} لمّا كان قولهم: {إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65] اعتذاراً عن مناجاتهم، أي إظهاراً للعذر الذي تناجَوا من أجله، وأنّه ما يحتاجه المتعَب: من الارتياح إلى المزح والحديثِ في غير الجدّ، فلمّا كشف الله أمر استهزائهم، أردفه بإظهار قلّة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبّسوا بما هو أشنع وأكبر ممّا اعتذروا عنه، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان. فإن الله لمّا أظهر نفاقهم. كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة {لا تعتذروا} من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله، وهي ارتقاء في توبيخهم، فهي متضمّنة توكيداً لمضمون جملة {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون} [التوبة: 65]، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنّهم تلبّسوا بما هو أشدّ وهو الكفر، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها، على أنّ شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأنّ التوبيخ يقتضي التعْداد، فتقع الجمل الموبَّخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد، اثنان، فالمعنى لا حاجة بكم للاعتذار عن التناجي فإنّكم قد عُرفتم بما هو أعظم وأشنع. والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى. وجملة: {قد كفرتم بعد إيمانكم} في موضع العلّة من جملة: {لا تعتذروا} تعليلاً للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى. وقوله: {قد كفرتم} يدلّ على وقوع الكفر في الماضي، أي قبل الاستهزاء، وذلك أنّه قد عُرف كفرهم من قبل. والمراد بإسناد الإيمان إليهم: إظهارُ الإيمان، وإلاّ فَهُم لم يؤمنوا إيماناً صادقاً. والمراد بإيمانهم: إظهارهم الإيمان، لا وقوع حقيقته. وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة، أي بعد إيمان هو من شأنكم، وهذا تعريض بأنّه الإيمان الصوري غير الحقّ ونظيره قوله تعالى الآتي {وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] وهذا من لطائف القرآن. {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}. جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيراً له بإمكان تدارك حاله. ولمّا كان حال المنافقين عجيباً كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة، فأنبأهم أنّ طائفة منهم قد يُعفى عنها إذا طلبت سبب العفو: بإخلاص الإيمان، وأنّ طائفة تَبْقى في حالة العذاب، والمقام دالّ على أنّ ذلك لا يكون عبثاً ولا ترجيحاً بدون مُرجّح، فما هو إلاّ أنّ طائفة مرجّوة الإيمان، فيغفر عمّا قدّمته من النفاق، وأخرى تصرّ على النفاق حتّى الموت، فتصير إلى العذاب. والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دلَّ عليه المقام وضوحاً من قوله: {نسوا الله فنسيهم إلى قوله عذاب مقيم} [التوبة: 67، 68]. وقوله بعد ذلك: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولّوا يعذّبهم الله عذاباً أليما في الدنيا والآخرة} [التوبة: 74]. وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية، وذكر المفسّرون من هذه الطائفة مخشيَّا بن حُمَيِّر الأشجعي لمّا سمع هذه الآية تاب من النفاق، وحسن إسلامه، فعدّ من الصحابة، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه، وقد قيل: إنّه المقصود « بالطائفة» دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقوله صلى الله عليه وسلم "مَا بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله "وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسّمهم. والباء في {بأنهم كانوا مجرمين} للسببية، والمجرم الكافر. وقرأ الجمهور {يُعفَ وتُعذبْ} ببناء الفعلين إلى النائب، وقرأه عاصم بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب {طائفة} الثاني...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولهذا الفجور الذي يبدر من ألسنتهم ويدل على قلوبهم، قال الله تعالى: {لا تعتذروا}؛ لأن كل اعتذار يلقون فيه أنفسهم بهاوية من الكفر أشد مما هم فيه، فقال تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة}.والنهي هنا على حقيقته، فالله تعالى ينهاهم عن الاعتذار؛ لأن الاعتذار يؤدي إلى أن يقعوا في ذنب أشد مما يعتذرون عنه لحميتهم، وجهالتهم بسبب النفاق الذي أركس نفوسهم في الشر، أو نقول النهي للتهكم باعتذارهم الذي يجعلهم يعترفون بأفحش ذنوبهم.
والاعتذار محو أثر الذنب، وأصله القطع، واعتذرت إليه: قطعت ما في قلبه من الموجدة، فهم يحاولون إزالة ما أوجده كلامهم من كفر، فيزيدون الذنوب.
والاستهزاء استخفاف، فإذا كان الله وآياته ورسوله فهو كفر، ولذا قال تعالى في اعتذارهم وإقرارهم بالاستهزاء {قد كفرتم بعد إيمانكم} وقد أكد الله تعالى كفرهم ب {قد} الدالة على التحقيق فأكد الله تعالى كفرهم، وقوله تعالى: {بعد إيمانكم} والنفاق ليس فيه إيمان، والمنافق ليس بمؤمن، ولكنه يظهر الإيمان، ويكون بعد إيمانكم أي بعد إظهار إيمانكم، فكشفتم كفركم بعد ستره، فافتضح أمركم بعد أن سترتموه، أو نقول: إنه كان فيهم ضعفاء الإيمان، فكان اشتراكهم معه في الاستهزاء والسخرية بالله تعالى وآياته ورسوله كفرا لهم بعد إيمان كان فيهم، وإن كان ناقصا، وإني أختار هذا، والله تعالى أعلم.
ثم يقول سبحانه: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة}، إن عفو الله منوط بالتوبة، الطائفة التي يعفو الله عنها هي التائبة، فالتوبة تجب ما قبلها، وقد كان في هؤلاء الذين خاضوا ولعبوا وتعابثوا، من تاب وأناب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
اعتذار المنافقين غير مقبول {لاَ تَعْتَذِرُواْ} لأنكم لا تملكون القاعدة التي تجعل من هذه الأعذار شيئاً حقيقياً يبرّر أفعالكم وأقوالكم بطريقةٍ حقيقيّةٍ، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فقد أعلنتم الإيمان وأظهرتموه وعاملناكم بما يعامل به المسلمون إخوانهم من المسلمين، ولكنكم كشفتم ما كنتم تبطنونه من الكفر الداخليّ، وبذلك كان هذا الموقف منكم كفراً بعد إيمان. {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} ربما كانوا من التابعين المستضعفين الذين خضعوا لتأثير الكبار منهم، فقد يكون ذلك مبرّراً للعفو عنهم، {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} من هؤلاء المتمردين الذين انطلق النفاق من خلال تفكيرهم وتخطيطهم وتنفيذهم لكل الأعمال الإجراميّة ضد الإسلام والمسلمين، ولذلك فإنهم يتحملون مسؤولية النتائج السلبيّة جُملةً وتفصيلاً {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} فيستحقون كل عقاب الجريمة، في ما تؤدي إليه من دمارٍ وتضليلٍ وخراب، وربّما فسّرت الفقرة، بالعفو عن التائبين منهم، والعذاب للمصرّين على العصيان والنفاق...