اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا تَعۡتَذِرُواْ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡۚ إِن نَّعۡفُ عَن طَآئِفَةٖ مِّنكُمۡ نُعَذِّبۡ طَآئِفَةَۢ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (66)

قوله : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ } .

نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين ، الأول : أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب ، وأصله من : تعذرت المنازل ، أي : دَرَسَتْ ، وامَّحت آثارها ؛ قال ابن أحمر : [ البسيط ]

قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ *** أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ{[17956]}

فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ .

والثاني : قال ابنُ الأعرابي : أصله من العذر ، وهو القطع ، ومنه العُذْرة ؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ .

ويقولون : اعتذرت المياه ، أي : انقطعت ، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه . قوله : { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً ؛ لأنه استخفاف بالدين ، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى ، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة .

فإن قيل : كيف قال { كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وهم لم يكونوا مؤمنين ؟

فالجواب : قال الحسنُ : أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان{[17957]} .

فصل

قال ابنُ العربي : " لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً ، أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة ، قال تعالى : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ البقرة : 67 ] .

فصل

اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق ، قيل : يلزم وقيل : لا يلزم ، وقيل : يفرق بين البيع وغيره . فيلزمُ في النكاح والطلاق ، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء . وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ " {[17958]}

قال الترمذيُّ " حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم " .

قال القرطبي : " وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق " {[17959]} .

قوله : " . . . إن نَعْفُ " قرأ عاصم{[17960]} " نَعْفُ " بنون العظمة ، " نعذِّب " كذلك ، " طَائفَة " نصباً على المفعول به ، وهي قراءة أبي عبد{[17961]} الرحمن السُّلمي ، وزيد بن علي . وقرأ الباقون " يُعْفَ " في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول ، ورفع " طَائفةٌ " ، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده . وقرأ الجحدريُّ{[17962]} " إن يَعْفُ " بالياء من تحت فيهما ، مبنياً للفاعل ، وهو ضميرُ الله تعالى ، ونصب " طائفة " على المفعول به . وقرأ{[17963]} مجاهدٌ " تُعْف " بالتاء من فوق فيهما ، مبنياً للمفعول ، ورفع " طائفة " ، لقيامها مقام الفاعل . وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان :

أحدهما : أنَّهُ ضمير الذنوب ، أي : إن تُعْفَ هذه الذنوب .

والثاني : أنَّه الجارُّ ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى .

قال الزمخشريُّ " الوجه التذكير ؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ ، كما تقول : سِيرَ بالدَّابة ، ولا تقول : سِيرت بالدَّابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك ، وهو غريبٌ " .

فصل

قال مجاهدٌ : وابن إسحاق : الذي عُفِيَ عنه رجل واحد ، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي ، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض ، وكان يمشي مجانباً لهم ، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه ، وقال : اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ ، وتجب منها القلوبُ ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك ، لا يقولُ أحدٌ : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه{[17964]} .

فصل

ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة ؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً . قال الزجاجُ : والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة ؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] . وأقله الواحد ، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه ، وقال تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }{[17965]} [ الحجر : 9 ] .

قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد ، فتقولُ : خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال ، وقال تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني : نعيم بن مسعود ، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم : { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } .


[17956]:ينظر: شرح المفضليات 1/408، واللسان (عذر)، والتهذيب 2/311 (عذر) والقرطبي 8/198، والبحر المحيط 5/63، والعمدة لابن رشيق 2/180، والدر المصون 3/480.
[17957]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (16/99) عن الحسن.
[17958]:تقدم.
[17959]:تقدم.
[17960]:ينظر: السبعة ص (316)، الحجة 4/205، حجة القراءات ص (320)، إعراب القراءات 1/251، إتحاف فضلاء البشر 2/95.
[17961]:ينظر: السابق.
[17962]:ينظر: الكشاف 2/287، المحرر الوجيز 3/55، البحر المحيط 5/68، الدر المصون 3/481.
[17963]:ينظر: السابق.
[17964]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/308).
[17965]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (16/100).