ثم بين خسرانهم وسفاهة عقولهم فقال : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : خسروا دينهم وأولادهم وعقولهم ، وصار وصْفُهم -بعد العقول الرزينة- السفه المردي ، والضلال .
{ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ } أي : ما جعله رحمة لهم ، وساقه رزقا لهم . فردوا كرامة ربهم ، ولم يكتفوا بذلك ، بل وصفوها بأنها حرام ، وهي من أَحَلِّ الحلال .
وكل هذا { افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ } أي : كذبا يكذب به كل معاند كَفَّار . { قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : قد ضلوا ضلالا بعيدا ، ولم يكونوا مهتدين في شيء من أمورهم .
هذا وقد عقب القرآن بعد إيراه لتلك الرذائل بقوله .
{ قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله } .
قال الإمام ابن كثير : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم ، وضيقوا على أنفسهم فى أموالهم ، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم . وأما فى الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم " .
والتعبير بخسر بدون ذكر مفعول معين يقع عليه الفعل للإشارة إلى أن خسارتهم خسارة مطلقة من أى تحديد ، فهى خسارة دينية وخسارة دنيوية - كما قال ابن كثير .
وقرأ ابن عامر { قتلوا } بالتشديد . أى : فعلوا ذلك كثيراً ، إذ التضعيف يفيد التكثير .
و { سَفَهاً } منصوب على أنه على لقتلوا أى : لخفة عقولهم وجهلهم قتلوا أولادهم . أو منصوب على أنه حال من الفاعل فى قتلوا وهو ضمير الجماعة .
والسفه : خفة فى النفس لنقصان العقل فى أمور الدنيا أو الدين .
وقوله { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله } أى من البحائر والسوائب ونحوهما ، وهو معطوف على { قتلوا } .
ثم بين - سبحانه - نتيجة ذلك القتل والتحريم فقال : { قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أى : قد ضلوا عن الصراط المستقيم بأقوالهم وأفعالهم القبيحة وما كانوا مهتدين إلى الحق والصواب .
قال الشهب ، وفى قوله { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } بعد قوله { قَدْ ضَلُّواْ } مبالغة فى نفى الهداية عنهم ، لأن صيغة الفعل تقتضى حدوث الضلال بعد أن لم يكن . فلذا أردف بهذه الحال لبيان عراقتهم فى الضلال ، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض " .
روى البخارى عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام { قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .
وإن الإنسان ليعجب ، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات ، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات . . يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه ، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم . ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون . ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير . . نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم ، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها ، والسير فيها بلا ضابط ، سوى الوهم والهوى والتقليد . وأمامهم التوحيد البسيط الواضح ؛ يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ؛ ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ؛ ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ؛ ويطلق " الإنسان " من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين ، وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة ، وتصورا واضحا ميسرا مريحا ، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة ، وانطلاقا من العبودية للعبيد ، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده . . المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء !
ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم ؛ وتتردى في حمأة الجاهلية ؛ وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد :
( قد خسر الذين قتلوا أولادهم - سفها بغير علم - وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) . .
خسروا الخسارة المطلقة . خسروا في الدنيا والآخرة . خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم . خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم . خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره ؛ وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد ؛ حين أسلموها لحاكمية العبيد ! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة ، خسروا الخسارة المؤكدة ، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه :
يقول تعالى : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفعال{[11262]} في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم ، وضيقوا عليهم في أموالهم ، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم ، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[11263]} قال : إذا سَرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ، { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }
وهكذا رواه البخاري منفردًا في كتاب " مناقب قريش " من صحيحه ، عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم ، عن أبي عوَانة - واسمه الوَضَّاح بن عبد الله اليَشْكُرِي - عن أبي بشر - واسمه جعفر بن أبي وَحْشِيَّة بن إياس ، به{[11264]} .
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم } يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر . وقرأ ابن كثير وابن عامر { قتلوا } بالتشديد بمعنى التكثير . { سفها بغير علم } لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم ، ويجوز نصبه على الحال أو المصدر . { وحرموا ما رزقهم الله } من البحائر ونحوها . { افتراء على الله } يحتمل الوجوه المذكورة في مثله . { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } إلى الحق والصواب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.