{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ْ } أي : يفضحهم على رءوس الخلائق ويبين لهم كذبهم وافتراءهم على الله .
{ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ْ } أي : تحاربون وتعادون الله وحزبه لأجلهم وتزعمون أنهم شركاء لله ، فإذا سألهم هذا السؤال لم يكن لهم جواب إلا الإقرار بضلالهم ، والاعتراف بعنادهم فيقولون { ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ْ } { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ْ } أي : العلماء الربانيون { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ ْ } أي : يوم القيامة { وَالسُّوءَ ْ } أي : العذاب { عَلَى الْكَافِرِينَ ْ } وفي هذا فضيلة أهل العلم ، وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند خلقه ، ثم ذكر ما يفعل بهم عند الوفاة وفي القيامة فقال : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ْ }
ثم بين - سبحانه - مصيرهم فى الآخرة ، بعد أن بين عاقبة مكرهم فى الدنيا فقال - تعالى - : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ . . } .
أى : هذا هو مصير هؤلاء المستكبرين فى الدنيا ، أما مصيرهم فى الآخرة فإن الله - تعالى - يذلهم ويهينهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : أين شركائى فى العبادة والطاعة ، الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين فى شأنهم ، قائلين لهم : إنكم لا بد لكم من إشراكهم معى فى العبادة .
وجئ بثم المفيدة للترتيب النسبى ، للإِشارة إلى ما بين الجزاءين من تفاوت فإن خزى الآخرة أشد وأعظم مما نزل بهم من دمار فى الدنيا .
والاستفهام فى قوله { أين شركائى . . } للتهكم بهم وبمعبوداتهم الباطلة التى كانوا يعبدونها فى الدنيا ، فانهم كانوا يقولون للمؤمنين إن صح ما تقولونه من العذاب فى الآخرة ، فان الأصنام ستشفع لنا .
أى : أين هؤلاء الشركاء ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من خزى وذلة وعذاب مهين ؟ ! وأضاف - سبحانه - الشركاء إليه ، لزيادة توبيخهم ، لأنهم فى هذا اليوم العظيم ، يعلمون علم اليقين أنه لا شركاء له - سبحانه - وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قال الجمل ما ملخصه : وقوله { تشاقون } من المشاقة وهى عبارة عن كون كل واحد من الخصمين فى شق غير شق صاحبه .
وقرأ نافع { تشاقون } بكسر النون خفيفه ، وقرأ الباقون بفتح النون ، ومفعوله محذوف . أى : تشاقون المؤمنين ، أو تشاقون الله ، بدليل القراءة الأولى . . . .
ثم حكى - سبحانه - ما يقوله أولو العلم فى هذا الموقف الهائل الشديد فقال - تعالى - : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين } .
والمراد بالذين أوتوا العلم ، كل من اهتدى إلى الحق فى الدنيا ؛ وأخلص لله - تعالى - العبادة والطاعة .
أى : قال الذين هداهم الله - تعالى - إلى صراطه المستقيم ، فى هذا اليوم العصيب ، إن الخزى الكامل ، فى هذا اليوم ، والسوء الذى ليس بعده سوء ، على هؤلاء الكافرين ، أصحاب القلوب المنكرة للحق ، والنفوس الجاحدة لليوم الآخر وما فيه من حساب .
وجئ بجمله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم . . } غير معطوفة على ما قبلها ، لأنها واقعة موقع الجواب لقوله - سبحانه - { أين شركائى . . . } وللتنبيه على أن الذين أوتوا العلم سارعوا بالجواب بعد أن وجم المستكبرون ، وعجزوا عن الإِجابة .
وقولهم هذا يدل على شماتتهم بأعداء الله - تعالى - ، وتوبيخهم لهم على كفرهم ، واستكبارهم عن الإستماع إلى كلمة الحق .
وقال - سبحانه - : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم . . . } بلفظ الماضى ، مع أن هذا القول سيكون فى الآخرة ، للإشارة إلى تحقق وقوعه ، وأنه كائن لا محالة .
وبين الحين والحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر الذي رسمه القرآن الكريم : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) .
هذا في الدنيا ، وفي واقع الأرض : ( ثم يوم القيامة يخزيهم ، ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ ) .
ويرتسم مشهد من مشاهد القيامة يقف فيه هؤلاء المستكبرون الماكرون موقف الخزي ؛ وقد انتهى عهد الاستكبار والمكر . وجاءوا إلى صاحب الخلق والأمر ، يسألهم سؤال التبكيت والتأنيب : ( أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ ) أين شركائي الذين كنتم تخاصمون من أجلهم الرسول والمؤمنين ، وتجادلون فيهم المقرين الموحدين ؟ .
ويسكت القوم من خزي ، لتنطلق ألسنة الذين أوتوا العلم من الملائكة والرسل والمؤمنين وقد أذن الله لهم أن يكونوا في هذا اليوم متكلمين ظاهرين : ( قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) . .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فعل الله بهؤلاء الذين مكروا الذين وصف الله جلّ ثناؤه أمرهم ما فعل بهم في الدنيا من تعجيل العذاب لهم والانتقام بكفرهم وجحودهم وحدانيته، ثم هو مع ذلك يوم القيامة مخزيهم فمذلهم بعذاب أليم وقائل لهم عند ورودهم عليه:"أيْنَ شُرَكائيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشاقّونَ فِيهم" أصله: من شاققت فلانا فهو يشاقّني، وذلك إذا فعل كلّ واحد منهما بصاحبه ما يشقّ عليه. يقول تعالى ذكره يوم القيامة تقريعا للمشركين بعبادتهم الأصنام: "أين شركائي "يقول: أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي اليوم؟ ما لهم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم ما أنا محلّ بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا وتتولونهم، والوليّ ينصر وليه. وكانت مشاقتهم الله في أوثانهم مخالفتهم إياه في عبادتهم... عن ابن عباس، قوله: "أيْنَ شُرَكائيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشاقّونَ فِيهم" يقول: تخالفوني.
وقوله: "قالَ الّذِينَ أُتُوا العلْمَ إنّ الخِزْي اليَوْمَ والسّوءَ على الكافرِينَ" يعني: الذلة والهوان، والسّوءَ يعني: عذاب الله على الكافرين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم يوم القيامة يخزيهم}، أخبر أنه يوم القيامة يخزيهم بعد ما عذبهم في الدنيا بقوله {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} وقوله: {يخزيهم} قال أهل التأويل: يعذبهم. وكأن الإخزاء هو الإذلال والإهانة والفضح، يذلهم، ويهينهم، ويفضحهم في الآخرة مكان ما كان منهم من الاستكبار والتجبر على النبي وأصحابه... وقوله تعالى: {أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم} أي كنتم تعادون أوليائي فيهم، أو تعادونني فيهم.
{أين شركائي} لسن له بشركاء، ولكن أضاف إلى نفسه (شركائي) على ما زعمتم في الدنيا (أنهم شركائي). وكذلك قوله: {فراغ إلى آلهتهم} (الصافات: 91) أي إلى ما في زعمهم وتسميتهم إياها آلهة.
{كنتم تشاقون فيهم} أي كنتم تخالفون فيهم، وتعادون؛ أي تخالفون المؤمنين في عبادتكم إياها، وتقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) وتقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس: 18) ونحوه. كانوا يخالفون المؤمنين، وكانوا يشاقون في ذلك. إلا أنه أضاف ذلك إلى نفسه لأنهم أولياؤه وأنصار دين الله. وأضاف إليه المخالفة لأنهم خالفوا أمر الله تعالى.
{قال الذين أوتوا العلم} قال أهل التأويل: {الذين أوتوا العلم} الملائكة الكرام الكاتبون، هم وغيرهم من المؤمنين محتمل.
{إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} أي الذل والهوان والافتضاح وكل سوء على الكافرين. هكذا يقابل كل معاند ومكابر في حجج الله وبراهينه مكان استكبارهم وتجبرهم في الدنيا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" على الكافرين "الجاحدين لنعمه المنكرين لتوحيده وصدق أنبيائه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في الدنيا عاجلُ بلائهم، وبين أيديهم آجِلُه. وحَسْرةُ المُفِلس تتضاعف إذا ما حُوسِبَ، وشاهَدَ حاصِلَه. {قَالَ الَّذِينَ أُوتُو العِلْمَ...}: يُسْمِعُ الكافرين قولَ المؤمنين، ويبيِّن للكافة صِدْقَهم. ويقع الندمُ على جاهلهم. وأما اليومَ فعليهم بالصبر والتحمُّل، وعن قريب ينكشف الغطاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُخْزِيهِمْ} يذلهم بعذاب الخزي {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] يعني هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة.
{شُرَكَائِي} على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم...
وقرىء: «تشاقونِ»، بكسر النون، بمعنى: تشاقونني؛ لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله..
{قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم، يقولون ذلك شماتة بهم، وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه.
... والخزي: هو العذاب مع الهوان...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
..."قال الذين أوتوا العلم":... وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلك إلا أهله..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سبحانه وتعالى حال المكرة المتمردين عليه في الدنيا، أخذ يذكر حالهم في الآخرة تقريراً للآخرة وبياناً لأن عذابهم غير مقصور على الدنيوي، فقال تعالى: {ثم يوم القيامة يخزيهم} أي الله تعالى الذي فعل بهم في الدنيا ما تقدم، خزياً يشهده جميع الخلائق الوقوف في ذلك اليوم، فيحصل لهم من الذل -جزاء على تكبرهم- ما يجل عن الوصف، وعطفه ب "ثم "لاستبعادهم له ولما له من الهول والعظمة التي يستصغر لها كل هول {ويقول} أي لهم في ذلك الجمع تبكيتاً وتوبيخاً: {أين شركائي} على ما كنتم تزعمون، وأضاف سبحانه إلى نفسه المقدس لأنه أقطع في توبيخهم وأدل على تناهي الغضب {الذين كنتم} أي كوناً لا تنفكون عنه {تشاقون فيهم} أوليائي، فتكونون بمخالفتهم في شق غير شقهم، فتخضعون لما لا ينبغي الخضوع له، وتتكبرون على من لا ينبغي الإعراض عنه، ما لهم لا يحضرونكم ويدفعون عنكم في هذا اليوم؟ وقرئ بكسر النون، لأن مشاققة المأمور مشاققة الآمر.
ولما كان المقام للجلال والعظمة المستلزم لزيادة الهيبة التي يلزم عنها غالباً خرس المخزي عن جوابه لو كان له جواب، وكان من أجل المقاصد في تعذيبهم العدل بتفريح الأولياء وإشماتهم بهم، جزاء لما كانوا يعملون بهم في الدنيا، وكانت الشماتة أعلى محبوب للشامت وأعظم مرهوب للمشموت فيه، وأعظم مسلّ للمظلوم، دل على سكوتهم رغباً عن المبادرة بالجواب بتأخير الخبر عنه وتقديم الخبر عن شماتة أعدائهم فيهم في سياق الجواب عن سؤال من قال: هل علم بذلك المؤمنون؟ فقيل: {قال الذين} ولما كان العلم شرفاً للعالم مطلقاً، بني للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي انتفعوا به في سلوك سبيل النجاة من الأنبياء عليهم السلام ومن أطاعهم من أممهم، إشارة إلى أن الهالك يصح سلب العلم عنه وإن كان أعلم الناس، وعدل عن أن يقول: أعداؤهم أو المؤمنون ونحوه، إجلالاً لهم بوصفهم بالعلم الذي هو أشرف الصفات لكونه منشأ كل فضيلة، وتعريضاً بأن الحامل للكفار على الاستكبار الجهل الذي هو سبب كل رذيلة {إن الخزي} أي البلاء المذل {اليوم} أي يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة {والسوء} أي كل ما يسوء {على الكافرين} أي العريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، لا على غيرهم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} فإنه عطفٌ على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي هذا الذي فُهم من التمثيل من عذاب هؤلاءِ أو ما هو أعمُّ منه ومما ذكر من عذاب أولئك جزاؤُهم في الدنيا ويوم القيامة يُخزيهم أي يُذِلهم بعذاب الخِزْي على رؤوس الأشهادِ، وأصلُ الخزي ذُلٌّ يستحيى منه، وثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما يدل عليه من التراخي الزماني، وتغييرُ السبك بتقديم الظرف ليس لقصر الخزي على يوم القيامة كما هو المتبادرُ من تقديم الظرف على الفعل بل لأن الإخبارَ بجزائهم في الدنيا مؤذِنٌ بأن لهم جزاءً أخروياً فتبقى النفسُ مترقبة إلى وروده سائلةً عنه بأنه ماذا، مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلامُ على وجه يُؤذِن بأن المقصود بالذكر إخزاؤهم لا كونُه يوم القيامة، والضمير إما للمفترين في حق القرآنِ الكريم أو لهم ولمن مُثّلوا بهم من الماكرين كما أشير إليه وتخصيصُه بهم يأباه السِّباقُ والسياق كما ستقف عليه.
{قَالَ الذين أُوتُواْ العلم}...وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على تحققه وتحتّم وقوعِه حسبما هو المعتادُ في إخباره سبحانه وتعالى كقوله: {وَنَادَى أصحاب الجنة} {ونادى أصحاب الأعراف}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {أين} للاستفهام عن المكان، وهو يقتضي العلم بوجود من يحلّ في المكان. ولما كان المقام هنا مقام تهكّم كان الاستفهام عن المكان مستعملاً في التهكّم ليظهر لهم كالطماعية للبحث عن آلهتهم، وهم علموا أن لا وجود لهم ولا مكان لحلولهم.
والمشاقّة: المُشادة في الخصومة، كأنّها خصومة لا سبيل معها إلى الوفاق، إذ قد صار كلّ خصم في شِقّ غير شقّ الآخر. و (في) للظرفيّة المجازيّة مع حذف مضاف، إذ المشاقّة لا تكون في الذوات بل في المعاني. والتّقدير: في إلهيتهم أو في شأنهم..وجيء بجملة {قال الذين أوتوا العلم} غير معطوفة لأنها واقعة موقع الجواب لقوله: {أين شركائي} للتّنبيه على أنّ الّذين أوتوا العلم ابتدروا الجواب لما وجم المشركون فلم يحيروا جوابا، فأجاب الّذين أوتوا العلم جواباً جامعاً لنفي أن يكون الشركاء المزعومون مغنين عن الّذين أشركوا شيئاً، وأنّ الخزي والسوء أحاطا بالكافرين.
{قال الذين أوتوا العلم}...كقوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} [سورة الروم: 56]، أي يقولون في ذلك الموقف من جرّاء ما يشاهدوا من مُهيّأ العذاب للكافرين كلاماً يدلّ على حصر الخزي والضرّ يوم القيامة في الكون على الكافرين. وهو قصر ادعائي لبلوغ المُعرف بلام الجنس حدّ النّهاية في جنسه حتّى كأنّ غيره من جنسه ليس من ذلك الجنس. وتأكيد الجملة بحرف التوكيد وبصيغة القصر والإتيان بحرف الاستعلاء الدّال على تمكّن الخزي والسوء منهم يفيد معنى التّعجّب من هول ما أعدّ لهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ} في موقفهم الحائر الخائف المهزوم أمام هول المحشر، في محضر الخلائق الذين يشهدون على جرائمهم، ويشاهدون عذابهم، ويتطلعون إليهم وهم واجمون أمام السؤال الحاسم الذي يوجهه الله إليهم، من موقع التأنيب والتوبيخ، لما كانوا يعيشونه من انحرافٍ، في منطقهم الضعيف الذي لم يرتكز على أساسٍ من علم.
{وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَقُّونَ فِيهِمْ} وتنازعون المؤمنين الموحدين، وتثيرون من خلالهم المشاكل في طريق الأنبياء والدعاة إلى الله. فهل ترون لهم من موقعٍ في هذا الموقف العظيم، الذي كنتم تزعمون أنهم يملكون فيه الامتيازات الكبيرة، والحظوة العظيمة. ويلحّ السؤال عليهم، دون أن يملكوا له جواباً، لأن هؤلاء الشركاء لا يملكون أيّة قوة، ولا يمثلون أيّ موقع. ويقف الذين أخذوا بأسباب العلم في الدنيا، في ما حملوه من عقائد ومفاهيم، واتخذوه من مواقف، وأقاموه من علاقات، جعلت حياتهم تتحرك في المواقع الثابتة، وفي الطريق المستقيم، ومنحتهم بالتالي وضوح الرؤية وسلامة التفكير في النظر إلى الأمور وإلى حركة الناس، وأصبحوا بذلك في موقع الحكم الذي يزن الأمور، ليطلق الحكم العدل والكلمة الصحيحة، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} لأنهم لم يكفروا من حالة شك في حقيقة العقيدة في حسابات الحق والباطل، ولكنهم كفروا من حالة عنادٍ وتمرّدٍ، بعد أن قامت عليهم الحجة من الله، ولذلك فإنهم يواجهون الخزي في الموقف، في ما يلاقونه من العار كما يواجهون السوء وهو العذاب في ما يواجهونه من عذاب النار...