{ 41 } { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
يخبر تعالى عن كمال قدرته ، وتمام رحمته ، وسعة حلمه ومغفرته ، وأنه تعالى يمسك السماوات والأرض عن الزوال ، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق ، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما .
ولكنه تعالى ، قضى أن يكونا كما وجدا ، ليحصل للخلق القرار ، والنفع ، والاعتبار ، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته ، ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالا وتعظيما ، ومحبة وتكريما ، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته ، بإمهال المذنبين ، وعدم معالجته للعاصين ، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم ، ولو أذن للأرض لابتلعتهم ، ولكن وسعتهم مغفرته ، وحلمه ، وكرمه { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
وبعد أن بين - سبحانه - ما عليه المعبودات الباطلة من عجز وضعف ، أتبع ذلك ببيان جانب من عظيم قدرته ، وعميم فضله فقال : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } .
أى : إن الله - تعالى - بقدرته وحدها ، يمسك السماوات والأرض كراهة أن نزولاً ، أو يمنعهما ويحفظهما من الزال أو الاضمحلال أو الاضطراب ، ولئن زالتا - على سبل الفرض والتقدير - فلن يستطيع أحد أن يمسكها ويمنعها عن هذا الزوال سوى الله - تعالى - { إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ } وما زال { حَلِيماً } بعباده { غَفُوراً } لمن تاب إليه وأناب ، كما قال - تعالى - : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } قال الآلوسى : قوله : { وَلَئِن زَالَتَآ } أى : إن أشرفتا على الزوال على سبيل الفرض والتقدير ، { إِنْ أَمْسَكَهُمَا } أى : ما أمسكهما { مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } أى : من بعد إمساكه - تعالى - أو من بعد الزوال ، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة فى { لَئِن } . وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه . . و { مِّن } الأولى مزيدة لتأكيد العموم . والثانية للابتداء .
والجولة الثالثة - بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض - تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك :
( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . إنه كان حليماً غفوراً ) . .
ونظرة إلى السماوات والأرض ؛ وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود . وكلها قائمة في مواضعها ، تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها ، لا تختل ، ولا تخرج عنها ، ولا تبطىء أو تسرع في دورتها ، وكلها لا تقوم على عمد ، ولا تشد بأمراس ، ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك . . نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول .
ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها ، واختلت وتناثرت بدداً ، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً . وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيراً لنهاية هذا العالم . حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر ؛ ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه .
وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا . والانتهاء إلى العالم الآخر ، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافاً كاملاً .
ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله :
( حليماً )يمهل الناس ، ولا ينهي هذا العالم بهم ، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم . ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد . ( غفوراً )لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيراً . وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود .
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره ، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا } أي : أن تضطربا عن أماكنهما ، كما قال : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ]{ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } أي : لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو ، وهو مع ذلك حليم غفور ، أي : يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه ، وهو يحلم{[24618]} فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يَعْجَل ، ويستر آخرين ويغفر ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } .
وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرًا ، فقال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثني هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمَة ، عن{[24619]} أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى ، عليه السلام{[24620]} على المنبر قال : " وقع في نفس موسى عليه السلام : هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا ، فأرقه ثلاثا{[24621]} ، وأعطاه قارورتين ، في كل يد قارورة ، وأمره أن{[24622]} يحتفظ بهما . قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما{[24623]} عن الأخرى ، حتى نام نومه ، فاصطفقت يداه فَتَكَسَّرت القارورتان . قال : ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " . {[24624]}
والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع ، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه السلام أجَلّ من أن يُجَوّز على الله سبحانه وتعالى النوم ، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز بأنه : { الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } [ البقرة : 255 ] . وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القِسْطَ ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " . {[24625]}
وقد قال أبو جعفر بن جرير{[24626]} : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال : جاء رجل إلى عبد الله - هو ابن مسعود - فقال : من أين جئت ؟ قال : من الشام . قال : مَنْ لقيت ؟ قال : لقيت كعبًا . قال : ما حدثك كعب ؟ قال : حدثني أن السموات تدور على مِنْكَب مَلَك . قال : أفصدقته أو كذبته ؟ قال : ما صدقته ولا كذبته . قال : لوددت أنك افتديت مَن رحلتك إليه براحلتك ورَحْلِها ، كَذَب كعب . إن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ }{[24627]} .
وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود . ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد ، عن جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ذهب جُنْدب البَجَلي إلى كعب بالشام ، فذكر نحوه . {[24628]} وقد رأيت في مصنف الفقيه{[24629]} يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الطليطلي ، سماه " سير الفقهاء " ، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، به . ثم قال : وأخبرنا زونان - يعني : عبد الملك بن الحسن - عن ابن وهب ، عن مالك أنه قال : السماء لا تدور . واحتج بهذه الآية ، وبحديث : " إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه " .
قلت : وهذا الحديث في الصحيح ، {[24630]} والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } .
يقول تعالى ذكره : إنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ لئلا تزولا من أماكنهما وَلَئِنْ زَالَتا يقول : ولو زالتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يقول : ما أمسكهما أحد سواه . ووضعت «لئن » في قوله وَلَئِنْ زَالَتا في موضع «لو » لأنهما يجابان بجواب واحد ، فيتشابهان في المعنى ونظير ذلك قوله : وَلَئِنْ أرْسَلْنا رِيحا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّا لَظَلّوا مِنْ بَعْدِهِ يكْفُرُونَ بمعنى : ولو أرسلنا ريحا ، وكما قال : ولئن أتَيْتَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بمعنى : لو أتيت . وقد بيّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثَنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَوَات والأرْضَ أنْ تَزُولا من مكانهما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : جاء رجل إلى عبد الله ، فقال : من أين جئت ؟ قال : من الشام ، قال : مَن لقيتَ ؟ قال : لقيتُ كعبا ، فقال : ما حدّثك كعب ؟ قال : حدثني أن السموات تدور على منكب ملك ، قال : فصدّقته أو كذّبته ؟ قال : ما صدّقته ولا كذّبته ، قال : لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها ، وكذب كعب إن الله يقول : إنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَوَاتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ .
حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : ذهب جُندَب البَجَليّ إلى كعب الأحبار ، فقدم عليه ثم رجع ، فقال له عبد الله : حدّثنا ما حدّثك ، فقال : حدثني أن السماء في قطب كقطب الرحا ، والقطب عمود على مَنكِب ملك ، قال عبد الله : لوددت أنك افتديت رحلتك بمثل راحلتك ثم قال : ما تنتكت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه ، ثم قال : إنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ أنْ تَزُولا كفى بها زوالاً أن تدور .
وقوله : إنّهُ كانَ حَلِيما غَفُورا يقول تعالى ذكره : إن الله كان حليما عمن أشرك وكفر به من خلقه في تركه تعجيل عذابه له ، غفورا لذنوب من تاب منهم ، وأناب إلى الإيمان به ، والعمل بما يرضيه .
انتقال من نفي أن يكون لشركائهم خلق أو شركة تصرف في الكائنات التي في السماء والأرض إلى إثبات أنه تعالى هو القيّوم على السماوات والأرض لتبقَيَا موجودتَيْن فهو الحافظ بقدرته نظام بقائهما . وهذا الإِمساك هو الذي يعبر عنه في علم الهيئة بنظام الجاذبية بحيث لا يعْتريه خلل .
وعبر عن ذلك الحفظ بالإِمساك على طريقة التمثيل .
وحقيقة الإِمساك : القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق ، فمُثل حال حفظ نظام السماوات والأرض بحال استقرار الشيء الذي يُمسكه الممسك بيده ، ولمّا كان في الإِمساك معنى المنع عُدّي إلى الزوال ب { مِن } ، وحذفت كما هو شأن حروف الجر مع { أنْ } و { أنَّ } في الغالب ، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة ، وتقدم عند قوله تعالى : { ويمسك السماء } في سورة الحج ( 65 ) . ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار فعطف عليه قوله : ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } ، فالزوال المفروض أيضاً مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما .
والزوال يطلق على العدم ، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان ، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء ، وتقدم آخِرَ سورة إبراهيم .
وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك فإن الله يُمسكهما من أن يُعْدما ، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما ، كما قال تعالى : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار } [ يس : 40 ] . فالله مريد استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت ، أي إذا أراد الله انقراض تلك العوالم أو بعضِها قيّض فيها طوارىء الخلل والفساد والخَرْق بعد الالتئام والفتق بعد الرتق ، فتفككت وانتشرت إلى ما لا يَعلم مصيره إلا الله تعالى وحينئذٍ لا يستطيع غيره مدافعة ذلك ولا إرجاعها إلى نظامها السابق فربما اضمحلت أو اضمحل بعضها ، وربما أخذت مسالك جديدة من البقاء .
وفي هذا إيقاظ للبصائر لتَعلم ذلك علماً إجمالياً وتتدبر في انتساق هذا النظام البديع .
فاللام موطئة للقسم . والشرط وجوابه مقسم عليه ، أي محقق تعليق الجواب بالشرط ووقوعه عنده ، وجواب الشرط هو الجملة المنفية ب { إن } النافية وهي أيضاً سادّة مسدّ جواب القسم .
وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما وإلا لبطل أنه ممسكهما من الزوال .
وأسند فعل { زالتا } إلى { السماوات والأرض } على تأويل السماوات بسماء واحدة . وأسند الزوال إليهما للعلم بأن الله هو الذي يزيلهما لقوله : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } .
وجيء في نفي إمساك أحد بحرف { مِن } المؤكدة للنفي تنصيصاً على عموم النكرة في سياق النفي ، أي لا يستطيع أحد كائناً من كان إمساكهما وإرجاعهما .
و« من بعد » صفة { أحد } و { من } ابتدائية ، أي أحد ناشىء أو كائن من زمان بعده ، لأن حقيقة ( بعدٍ ) تأخر زمان أحد عن زمن غيره المضاففِ إليه ( بعد ) وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية ، كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد اللَّه } [ الجاثية : 23 ] ، أي غير الله فالضمير المضاف إليه ( بعد ) عائد إلى الله تعالى .
وهذا نظير استعمال ( وراءٍ ) بمعنى ( دون ) أو بمعنى ( غير ) أيضاً في قول النابغة :
وفي ذكر إمساك السماوات عن الزوال بعد الإِطناب في محاجة المشركين وتفظيع غرورهم تعريض بأن ما يدْعون إليه من الفظاعة من شأنه أن يزلزل الأرضين ويسقط السماء كسفاً لولا أن الله أراد بقاءهما لحكمة ، كما في قوله تعالى : { لقد جئتم شيئاً إداً يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً } [ مريم : 89 ، 90 ] . وهذه دلالة من مستتبعات التراكيب باعتبار مثار مقامات التكلم بها ، وهو أيضاً تعريض بالتهديد .
ولذلك أتبع بالتذييل بوصف الله تعالى بالحلم والمغفرة لما يشمله صفة الحليم من حلمه على المؤمنين أن لا يزعجهم بفجائع عظيمة ، وعلى المشركين بتأخير مؤاخذتهم فإن التأخير من أثر الحلم ، وما تقتضيه صفة الغفور من أن في الإِمهال إعذاراً للظالمين لعلهم يرجعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لعل الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يعبده " لما رأى مَلَك الجبال فقال له : " إن شئتَ أن أطبق عليهم الأَخشَبين " .
وفعل { كان } المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنيين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم نفسه تعالى عما قالوا من الشرك، فقال جل ثناؤه: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا}: ألا تزولا عن موضعهما.
{ولئن زالتا} ولئن أرسلهما فزالتا {إن أمسكهما} فمن يمسكهما.
{من أحد من بعده}: لا يمسكهما من أحد من بعده.
{إنه كان حليما} عنهم... حين لا يعجل عليهم بالعقوبة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ" لئلا تزولا من أماكنهما، "وَلَئِنْ زَالَتا "يقول: ولو زالتا "إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ" يقول: ما أمسكهما أحد سواه...
وقوله: "إنّهُ كانَ حَلِيما غَفُورا" يقول تعالى ذكره: إن الله كان حليما عمن أشرك وكفر به من خلقه في تركه تعجيل عذابه له، غفورا لذنوب من تاب منهم، وأناب إلى الإيمان به، والعمل بما يرضيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} فإن كان على هذا، فيقول: تعلمون أن الله، هو رافع السماوات والأرض، والمُمسك لهما، والمانع أن تزولا عن مكانهما، لا يقدر أحد على إعادتهما ولا إمساكهما سواه. فكيف تعبدون من لا يملك ذلك؟
ويحتمل أن يكون ذلك قوله: {تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض} الآية [مريم: 90] كادت تتفطّر، وتنشق، حين قالوا: لله ولد، وله شريك، فإذا قالوا: {اتخذ الله ولدا} [البقرة: 116 و..] كادتا تزولان من مكانهما، وتسقط عليهم بعظيم ما قالوا في الله، سبحانه.
وجائز أن يكون لا على الصلة بشيء مما ذكرنا، ولكن على الابتداء، فإن كان على الابتداء، فهو يخبر عن قدرته وسلطانه حين رفع السماء، وأمسكها في الهواء مع غِلظها وشدتها بلا عمد من تحت ولا شيء من فوق، يمنعها عن الانحدار والزوال عن مكانها والإقرار على ذلك والتقرير، وفي الشاهد أن ليس في وسع أحد من الخلائق إمساك الشيء في الهواء ولا إقامته إلا بأحد هذين السببين إما من تحت وإما من فوق، وكذلك الأرض حيث دحاها، وبسطها على الماء، ومن طبعها التّسرب والتّسفل في الماء لا القرار عليه حيث لا يُحفر مكان منها إلا ويخرج منه الماء، فدل تقرير الأرض على الماء، وإمساك السماء في الهواء بلا شيء يقرّهما، ويمنعها عن التسفيل والانحدار، أنه الواحد القادر بذاته، لا يُعجزه شيء.
{إنه كان حليما غفورا}: {حليما} حين لم يرسل السماوات عليهم بعظيم فِريتهم على الله والقول فيه بما لا يليق به: {سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرا} [الإسراء: 43]
{غفورا} حين ستر عليهم ذلك، ولم يفضحهم في الدنيا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أمسكها بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتَّبهما بمشيئته، وخلَقَ أهلَهما على موجب قضيته، فلا شبيهَ في أبقائهما وإفنائهما يُسَاهِمُه، ولا شريكَ في وجودِهما ونظامهما يُقَاسمُه...
... يحتمل أن يقال لما بيّن شركهم، قال مقتضى شركهم زوال السموات والأرض.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها، عقبه بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أن تزولا} أي بوجه عظيمة وزلزلة كبيرة، أو زوالاً لا تماسك معه لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس، لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق سبحانه.
ولما كان هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان، أتبعه ما هو أبين منه، فقال معبراً بأداة الإمكان: {ولئن زالتا} أي بزلزلة أو خراب {إن} أي ما {أمسكهما} وأكد استغراق النفي بقوله: {من أحد} ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من الأزمان وإن قل، أثبت الجار فقال: {من بعده} أي بعد إزالته لهما، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة.
ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب، وكان كأنه قيل: هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام، قال جواباً لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمه وكثرتهم مما لا تسعه العقول: {إنه كان} أي أزلاً وأبداً.
{حليماً} أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص، ورغب في الإقلاع مشيراً إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله: {غفوراً} أي محاء لذنوب من رجع إليه، وأقبل بالاعتراف عليه، فلا يعاقبه ولا يعاتبه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والجولة الثالثة -بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض- تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك:
(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده. إنه كان حليماً غفوراً)..
ونظرة إلى السماوات والأرض؛ وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود. وكلها قائمة في مواضعها، تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها، لا تختل، ولا تخرج عنها، ولا تبطىء أو تسرع في دورتها، وكلها لا تقوم على عمد، ولا تشد بأمراس، ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك.. نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول.
ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها، واختلت وتناثرت بدداً، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً. وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيراً لنهاية هذا العالم. حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر؛ ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه.
وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا. والانتهاء إلى العالم الآخر، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافاً كاملاً.
ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله:
(حليماً) يمهل الناس، ولا ينهي هذا العالم بهم، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم. ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد. (غفوراً) لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيراً. وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من نفي أن يكون لشركائهم خلق أو شركة تصرف في الكائنات التي في السماء والأرض إلى إثبات أنه تعالى هو القيّوم على السماوات والأرض لتبقَيَا موجودتَيْن فهو الحافظ بقدرته نظام بقائهما.
وحقيقة الإِمساك: القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق، فمُثل حال حفظ نظام السماوات والأرض بحال استقرار الشيء الذي يُمسكه الممسك بيده، ولمّا كان في الإِمساك معنى المنع عُدّي إلى الزوال ب {مِن}، وحذفت كما هو شأن حروف الجر مع {أنْ} و {أنَّ} في الغالب، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة.
ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار فعطف عليه قوله:"ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده"، فالزوال المفروض أيضاً مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما.
والزوال يطلق على العدم، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء... وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك، فإن الله يُمسكهما من أن يُعْدما، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما كما قال تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار} [يس: 40]، فالله مريد استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت.
وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما وإلا لبطل أنه ممسكهما من الزوال...
فعل {كان} المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنيين.
وتُختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} ولك أنْ تسأل: ما علاقة هاتين الصفتين لله تعالى الحليم والغفور بمسألة إمساك السماوات والأرض، وهي مسألة كونية؟
قالوا: لأن هذه المسألة يكثر حولها الجدال، وكثيراً ما يتعدى الإنسانُ حددوه فيها، فيسأل عمّا لا ينبغي له الخوض فيه، وعن كيفية إمساك السماوات والأرض، وهو يمشي في أنحاء الأرض، ويركب الطائرة في جَوِّ السماء، فلا يرى شيئاً، ولا يرى أعمدة.
وهذه مسألة لا دخلَ لنا فيها، ويكفي أن الخالق عز وجل أخبرنا عنها بقوله:
{خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] أي: لا يوجد لها عُمد بالفعل، أو لها عمد، لكن لا ترونها ويصح المعنيان، وعلينا أن نقف عند هذا الحدِّ.
فالحق سبحانه حليم لا يعاقب المتجرئين عليه، الخائضين في حقه، بل إن المنكرين لوجوده سبحانه لا يعاجلهم بالعقوبة، ولولا حِلْمه تعالى كان [أسقطها] على رؤوسهم...
إذن: لولا حِلْم الله علينا ومغفرته لذنوبنا ما أمسك السماوات والأرض، ولتهدَّمَ هذا الكون على مَنْ فيه.