{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ } بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف ، ونهلك من قاومهم ، ونخذل من ناوأهم . { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } في الدين ، وذلك لا يحصل مع استضعاف ، بل لا بد من تمكين في الأرض ، وقدرة تامة ، { وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } للأرض ، الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة .
ثم بين - سبحانه - ما اقتضته إرادته وحكمته ، من تنفيذ وعيده فى القوم الظالمين ، مهما احتاطوا وحذروا ، ومن إنقاذه للمظلومين بعد أن أصابهم من الظلم ما أصابهم فقال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } .
وقوله { نَّمُنَّ } من المن بمعنى التفضل ، ومنه قوله - تعالى - : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين . . . } أى : لقد تفضل عليهم ، وأحسن إليهم .
وقوله : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض } من التمكين ، وأصله : أن نجعل للشىء مكانا يستقر فيه ، ويحل به .
ثم استعير للتسليط وللحصول على القوة بعد الضعف ، وللعز بعد الذل .
وقوله : { يَحْذَرُونَ } من الحذر ، بمعنى الاحتراس والاحتراز من الوقوع فى الأمر المخيف . يقال : حذر فلان فلانا ، إذا خافه واحترس منه .
قال الشوكانى : والواو ، فى قوله { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } للعطف على جملة ، { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } لأن بينهما تناسبا من حيث إن كل واحدة منهما ، للتفسير والبيان للنبأ . ويجوز أن تكون حالا من فاعل { يَسْتَضْعِفُ } بتقدير مبتدأ . أى : ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض . . والأول أولى .
والمعنى : لقد طغا فرعون وبغى ، ونحن بإرادتنا وقدرتنا { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } ونتفضل على بنى إسرائيل ، الذين استضعفوا فى الأرض ، بأن ننجيهم من ظلمه ، وننقذهم من قهره وبغيه .
{ وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } للأرض المباركة ، التى نعطيهم إياها متى آمنوا وأصلحوا ، كما قال - تعالى - : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } وقوله - تعالى - : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض } أى : ونجعلهم أقوياء راسخى الأقدام فى الأرض التى نورثهم إياها ، بعد القوم الظالمين .
{ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا } أى : ونطلع فرعون وهامان - وهو وزير فرعون - وجنودهما التابعين لهما { مِنْهُمْ } أى : من بنى إسرائيل المستضعفين فى الأرض { مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } أى ما كانوا يحاولون دفعه واتقاءه ، فقد كان فرعون وجنده يقتلون الذكور من بنى إسرائيل ، خوفا من ظهور غلام منهم يكون هلاك فرعون على يده .
قال ابن كثير : أراد فرعون بحوله وقوته ، أن ينجو من موسى . فما نفعه ذلك ، بل نفذ الله - تعالى - حكمه . بأن يكون إهلاك فرعون على يد موسى ، بل يكون هذا الغلام الذى احترزت من وجوده - يا فرعون - ، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان ، إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفى دارك . . . وهلاكك وهلاك جندك على يديه ، لتعلم أن رب السموات العلا ، هو القاهر الغالب العظيم ، الذى ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وهكذا تعلن السورة الكريمة فى مطلعها ، أن ما أراده الله - تعالى - لا بد أن يتم ، أمام أعين فرعون وجنده ، مهما احتاطوا ومهما احترسوا ، { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ }
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ؛ ويقدر غير ما يقدر الطاغية . والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم ، فينسون إرادة الله وتقديره ؛ ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون ، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون . ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .
والله يعلن هنا إرادته هو ، ويكشف عن تقديره هو ؛ ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما ، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا :
( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين ، ونمكن لهم في الأرض ، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) .
فهؤلا ء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير ، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، ويسومهم سوء العذاب والنكال . وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه ؛ فيبث عليهم العيون والأرصاد ، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار ! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد ؛ وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدا ولا تابعين ؛ وأن يورثهم الأرض المباركة [ التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح ] وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين . وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما ، وما يتخذون الحيطة دونه ، وهم لا يشعرون !
هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها . يعلن واقع الحال ، وما هو مقدر في المآل . ليقف القوتين وجها لوجه : قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير . وقوة الله الحقيقية الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس !
ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها . والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها ، وما ستنتهي إليه ، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها .
ومن ثم تنبض القصة بالحياة ؛ وكأنها تعرض لأول مرة ، على أنها رواية معروضة الفصول ، لا حكاية غبرت في التاريخ . هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام .
وقد فعل تعالى ذلك بهم ، كما قال : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] وقال : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] ، أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى ، فما نفعه ذلك مع قَدَر الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القِدَم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه ، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده ، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك ، وفي دارك ، وغذاؤه من طعامك ، وأنت تربيه وتدلله وتتفداه ، وحتفك ، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه ، لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم ، العزيز القوي الشديد المحال ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } . قوله : وَنُرِيدُ عطف على قوله يَسْتَضْعفُ طائِفَة مِنْهُمْ ومعنى الكلام : أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها من بني إسرائيل فِرَقا يستضعِف طائفة منهم وَ نَحْنُ نُرِيدُ أنْ نَمُنّ عَلَى الّذِينَ استضعفهم فرعون من بني إسرائيل وَنَجْعَلَهُمْ أئِمّةً . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَنُرِيدُ أنْ نَمُنّ عَلى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ قال : بنو إسرائيل .
قوله : ونَجْعَلَهُمْ أئمّةً أي ولاة وملوكا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ونَجْعَلَهُمْ أئمّةً أي ولاة الأمر :
وقوله : ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثينَ يقول : ونجعلهم ورّاث آل فرعون يرثون الأرض من بلد مهلكهم . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ : أي يرثون الأرض بعد فرعون وقومه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ يقول : يرثون الأرض بعد فرعون .
عطفت جملة { ونريد } على جملة { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] لمناسبة ما في تلك الجملة من نبأ تذبيح الأبناء واستحياء النساء ، فذلك من علو فرعون في الأرض وهو بيان لنبإ موسى وفرعون فإن إرادة الله الخير بالذين استضعفهم فرعون من تمام نبإ موسى وفرعون ، وهو موقع عبرة عظيمة من عِبَر هذه القصة .
وجيء بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد في ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة ، ولذلك جاز أن تكون جملة { ونريد } في موضع الحال من ضمير { يستضعف } [ القصص : 4 ] باعتبار أن تلك الإرادة مقارنة لوقت استضعاف فرعون إياهم . فالمعنى على الاحتمالين : ونحن حينئذ مُريدون أن ننعم في زمن مستقبل على الذين استضعفوا .
والمنّ : الإنعام ، وجاء مضارعه مضموم العين على خلاف القياس .
و { الذين استضعفوا في الأرض } هم الطائفة التي استضعفها فرعون . و { الأرض } هي الأرض في قوله { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] .
ونكتة إظهار { الذين استضعفوا } دون إيراد ضمير الطائفة للتنبيه على ما في الصلة من التعليل فإن الله رحيم لعباده ، وينصر المستضعفين المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً .
وخص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل { نمنّ } عطف الخاص على العام وهي : جعلهم أيمة ، وجعلهم الوارثين ، والتمكين لهم في الأرض ، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة ، ذكر كثير منها في سورة البقرة .
فأما جعلهم أيمة فذلك بأن أخرجهم من ذلّ العبودية وجعلهم أمة حرة مالكة أمر نفسها لها شريعة عادلة وقانون معاملاتها وقوة تدفع بها أعداءها ومملكة خالصة لها وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرتها بحيث تصير قدوة للأمم في شؤون الكمال وطلب الهناء ، فهذا معنى جعلهم أيمة ، أي يقتدي بهم غيرهم ويدعون الناس إلى الخير وناهيك بما بلغه ملك إسرائيل في عهد سليمان عليه السلام .
وأما جعلهم الوارثين فهو أن يعطيهم الله ديار قوم آخرين ويحكّمهم فيهم ، فالإرث مستعمل مجازاً في خلافة أمم أخرى .
فالتعريف في { الوارثين } تعريف الجنس المفيد أنهم أهل الإرث الخاص وهو إرث السلطة في الأرض بعد من كان قبلهم من أهل السلطان ، فإن الله أورثهم أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والأراميين ، وأحلهم محلهم على ما كانوا عليه من العظمة حتى كانوا يعرفون بالجبابرة قال تعالى { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين } [ المائدة : 22 ] .