ثم رد عليهم زعمهم الفاسد فقال { بلى } أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الأميين حرج ، بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الإثم .
{ من أوفى بعهده واتقى } والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه ، وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه ، ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد ، والتقوى تكون في هذا الموضع ، ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه ، وبينه وبين الخلق ، فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين يحبهم الله تعالى ، سواء كانوا من الأميين أو غيرهم ، فمن قال ليس علينا في الأميين سبيل ، فلم يوف بعهده ولم يتق الله ، فلم يكن ممن يحبه الله ، بل ممن يبغضه الله .
ثم أكد الله - تعالى - كذب هؤلاء اليهود الذين قالوا : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } بجملة أخرى فيها الرد الذى يخرس ألسنتهم ، ويدحض مزاعمهم فقال - تعالى - : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
و { بلى } حرف يذكر فى الجواب لإثبات المنفى فى كلام سابق ، ولقد حكى القرآن قبل ذلك أن اليهود قد نفوا أن يكون عليهم فى الأميين سبيل .
فجاء - سبحانه - بهذا الرد الذى يثبت ما نفوه ، ويبطل ما زعموه .
والمعنى : ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود من أنه ليس عليكم فى الأميين سبيل ، بل الحق أن علكيم فيهم سبيل . وأنكم معذبون بسبب كفركم واستحلالكم لأموالهم بدون حق ومثابون إن آمنتم بالله ورسوله ووفيتم بعهودكم ، وصنتم أنفسكم من كل ما يغضب الله - تعالى - .
وقد علل - سبحانه - هذا الحكم العادل بجملة مستأنفة عامة فقال : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
أي كل من أوفى بعهد الله فآمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم واستقام على دينه ، واتقى ما نهى الله عنه من ترك الخيانة والغدر وما إلى ذلك من المحرمات ، فإن الله يحبه ويرضى عنه ، ومن لم يفعل ذلك فإن الله يبغضه ولا يحبه ويعذبه العذاب الأليم .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد بينت أن محبة الله لعبده تتوفر بأمرين :
أولهما : الوفاء بالعهد . فكل ما يلتزمه الإنسان من عهود فالوفاء بها واجب . وفى مقدمة هذه العهود ، العهد الذى أخذه الله على عباده بتوحيده والإيمان برسله وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وثانيهما : تقوى الله بمعنى أن يجتنب ما نهى الله عنه وحرمه عليه ، ولا يفعل إلا ما أحله الله وأذن له فيه .
وقد خلا اليهود من هذين الأمرين ، لأنهم لم يفوا بعهودهم ، ولم يتقوا نالله ، فسلبت عنهم محبته ، واستحقوا غضبه - سبحانه - ونقمته .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم فى الأميين ، أى بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } جملة مستأنفة مقررة للجملة التى سدّت { بلى } مسدها . والضمير فى { بِعَهْدِهِ } راجع إلى { مَنْ أوفى } على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله بأن ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه .
فإن قلت : فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل ، لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شىء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم .
ولو اتقوا الله فى ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه ، ويجوز أن يرجع الضمير فى " بعهده " إلى الله ، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه ويدخل فى ذلك الإيمان وغيره من الصالحات ، وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء .
فإن قلت : فأين الضمير الراجع من الجزاء إل من ؟ قلت : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير " .
وبهذا يكون القرآن قد كشف عن مكر اليهود وخداعهم ، ورد عليهم فيما افتروه من أقوال باطلة ، وأثبت أنهم يكذبون فيما يدعون عن تعمد وإصرار ، وبين أن أداء الأمانة واجب على كل إنسان ، وأن كل من وفى بعهود الله واتقاه فهو أهل لمحبته ورضاه .
هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة ، وميزانه الخلقي الواحد . ويربط نظرته هذه بالله وتقواه :
( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم . ولهم عذاب أليم ) . .
فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعورا بتقواه أحبه الله وأكرمه . ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمنا قليلا - من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل - فلا نصيب له في الآخرة . ولا رعاية له عند الله ولا قبول ، ولا زكاة له ولا طهارة . وإنما هو العذاب الأليم .
ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى . ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق . فليس هو مسألة مصلحة . إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدا . دونما نظر إلى من يتعامل معهم .
وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة . في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق : التعامل هو أولا تعامل مع الله ، يلحظ فيه جناب الله ، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه . فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة ؛ وليس هو عرف الجماعة ، ولا مقتضيات ظروفها القائمة . فإن الجماعة قد تضل وتنحرف ، وتروج فيها المقاييس الباطلة . فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء . ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى . . أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة . . ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله ؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه . . بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض ؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء .
ثم قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } أي : لكن من أوفى بعهده منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك ، واتقى محارم الله تعالى واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله{[5204]} وسيد البشر " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " .
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ }
وهذا إخبار من الله عزّ وجلّ عمّا لمن أدّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبَته عنده . فقال جل ثناؤه : ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود ، من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم ، ثم قال بلى ، ولكن من أوفى بعهده واتقى ، يعني ولكن الذي أوفى بعهده ، وذلك وصيته إياهم ، التي أوصاهم بها في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به . والهاء في قوله : { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ } عائدة على اسم الله في قوله : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } يقول : بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه ، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدّق به . بما جاء به من الله من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها ، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ، و{ وَاتّقَى } يقول : واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرّمها عليه ، فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله ، وخوف عقابه { فإنّ اللّهَ يُحِبّ المُتقينَ } يعني : فإن الله يحبّ الذين يتقونه فيخافون عقابه ، ويحذرون عذابه ، فيجتنبون ما نهاهم عنه ، وحرّمه عليهم ، ويطيعونه فيما أمرهم به . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو اتقاء الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى } يقول : اتقى الشرك¹ { إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ } يقول : الذين يتقون الشرك .
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في ذلك والصواب من القول فيه بالأدلة الدالة عليه فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته .
{ بلى } إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل . { من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } استئناف مقرر للجملة التي سدت { بلى } مسدها ، والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى { من } ، وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي .
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم ، ليس علينا بقوله { بلى } أي عليهم سبيل وحجة وتبعة ، ثم أخبر على جهة الشرط أن { من أوفى } بالعهد { واتقى } عقوبة الله في نقضه ، فإنه محبوب عند الله ، وتقول العرب : وفى بالعهد ، وأوفى به بمعنى ، وأوفى ، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره ، على أن الضمير في قوله { بعهده } عائد على الله تعالى ، وقال بعض المفسرين : هو عائد على { من } .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان ، وقال ابن عباس : { اتقى } في هذه الآية ، معناه : اتقى الشرك ، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفاً للتقوى وحضّاً عليها .