و { قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي : تنزيها لك وتقديسا ، أن يكون لك شريك ، أو ند { أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } فنحن مفتقرون إلى ولايتك ، مضطرون إليها ، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا ؟ أم كيف نصلح لأن نتخذ من دونك أولياء وشركاء ؟ "
ولكن هؤلاء المشركون { كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } أي : الشياطين ، يأمرون{[739]} بعبادتنا أو عبادة غيرنا ، فيطيعونهم بذلك . وطاعتهم هي عبادتهم ، لأن العبادة الطاعة ، كما قال تعالى مخاطبا لكل من اتخذ معه آلهة { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
{ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } أي : مصدقون للجن ، منقادون لهم ، لأن الإيمان هو : التصديق الموجب للانقياد .
وقوله - تعالى - : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } حكاية لأقوال الملائكة .
أى : قال الملائكة فى الإِجابة على سؤال خالقهم . { سُبْحَانَكَ } أى : ننزهك ونقدسك عن أن يكون لك شريك فى عبادتك وطاعتك { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } أى : أنت الذى نواليك ونتقرب إليك وحدك بالعبادة ، وليس بيننا وبين هؤلاء المشركين أى موالاة أو قرب ، ولا دخل لنا فى عبادتهم لغيرك .
ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فى الدنيا فقالوا : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } .
أى : إن هؤلاء المشركين لا علم نا بأ ، هم كانوا يبعدوننا ، ونبرأ من ذلك إن كانوا قد عبدونا ، وهم إنما كانوا يعبدون فى الدنيا { الجن } أى الشياطين ، وكان أكثر هؤلاء المشركين يؤمنون بعبادة الشياطين . ويطيعونهم فيما يأمرونهم به ، أو ينهونهم عنه .
فقوله - تعالى - { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } إضراب انتقالى ، لبيان السبب فى شرك هؤلا المشركين ، وتصريح بمن كانوا يعبدونهم فى الدنيا .
قال الجمل : فإن قيل جميعهم كانوا متابعين للشيطان ، فما وجه قوله - تعالى - { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } فإنه يدل على أن بعضهم لم يؤمن بالجن ولم يطعمهم ؟
فالجواب من وجهين : أحدهما : أن الملائكة احترزوا عن دعوة الإِحاطة بهم ، فقالوا أكثرهم ، لأن الذين رأوهم واطعلوا على أحولاهم كانوا يعبدون الجن ، ولعل فى الوجود من لم يطلع الله الملائكة على حاله من الكفار .
الثانى : هو أن العبادة عمر ظاهر ، والإِيمان عمل باطن ، فقالوا : بل كانوا يبعدون الجن لاطلاعهم على أعمالهم ، وقالوا : أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب ، لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما فى القلوب ، فإن القلب لا يطلع على ما فيه إلا الله .
ويختم هذه الجولة بمشهدهم محشورين يوم القيامة ، حيث يواجههم الله سبحانه بالملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ؛ ثم يذوقون عذاب النار الذي كانوا يستعجلون به ، ويقولون متى هذا الوعد ? كما جاء في أول هذا الشوط :
( ويوم يحشرهم جميعاً ، ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون . فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً ، ونقول للذين ظلموا : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ) . .
فهؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، أو يتخذونهم عنده شفعاء . هؤلاء هم يواجهون بهم ، فيسبحون الله تنزيهاً له من هذا الادعاء ، ويتبرأون من عبادة القوم لهم . فكأنما هذه العبادة كانت باطلاً أصلاً ، وكأنما لم تقع ولم تكن لها حقيقة . إنما هم يتولون الشيطان . إما بعبادته والتوجه إليه ، وإما بطاعته في اتخاذ شركاء من دون الله . وهم حين عبدوا الملائكة إنما كانوا يعبدون الشيطان ! ذلك إلى أن عبادة الجن عرفت بين العرب ؛ وكان منهم فريق يتوجه إلى الجن بالعبادة أو الاستعانة : ( بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) . . ومن هنا تجيء علاقة قصة سليمان والجن بالقضايا والموضوعات التي تعالجها السورة ، على طريقة سياقة القصص في القرآن الكريم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهََؤُلاَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعا ، ثم نقول للملائكة : أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا ؟ فتتبرأ منهم الملائكة قَالُوا سُبْحَانَكَ ربنا ، تنزيها لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد أَنْتَ وَلِيّنَا مِنْ دونِهِمْ لا نتخذ وليا دونك بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثُمّ نَقُولُ للْمَلاَئِكة أهَؤُلاءِ إيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ استفهام ، كقوله لعيسى : أءَنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ ؟
وقوله : أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ يقول : أكثرهم بالجنّ مصدّقون ، يزعمون أنهم بنات الله ، تعالى الله عما يقولون عُلُوّا كبيرا .
وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما فعل هؤلاء الكفرة ، ثم برؤوا أنفسهم بقولهم { أنت ولينا من دونهم } يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن يعبدهم البشر ، ثم قرروا البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم تنف الملائكة عبادة البشر . إياها وإنما قررت أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة ، ثم ذنبت الجن ، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة ، وقد يجوز إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.