{ 122 } { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
يقول تعالى : -منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } أي : جميعا لقتال عدوهم ، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك ، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى ، { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ } أي : من البلدان ، والقبائل ، والأفخاذ { طَائِفَةٌ } تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى .
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم ، فقال : { لِيَتَفَقَّهُوا } أي : القاعدون { فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } أي . ليتعلموا العلم الشرعي ، ويعلموا معانيه ، ويفقهوا أسراره ، وليعلموا غيرهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .
ففي هذا فضيلة العلم ، وخصوصا الفقه في الدين ، وأنه أهم الأمور ، وأن من تعلم علما ، فعليه نشره وبثه في العباد ، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم ، من بركته وأجره ، الذي ينمى له .
وأما اقتصار العالم على نفسه ، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون ، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه ؟ وأي نتيجة نتجت من علمه ؟ وغايته أن يموت ، فيموت علمه وثمرته ، وهذا غاية الحرمان ، لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما .
وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف ، لفائدة مهمة ، وهي : أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ، ويوفر وقته عليها ، ويجتهد فيها ، ولا يلتفت إلى غيرها ، لتقوم مصالحهم ، وتتم منافعهم ، ولتكون وجهة جميعهم ، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا ، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم ، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب ، فالأعمال متباينة ، والقصد واحد ، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور .
وبعد أن حرض الله - تعالى - المؤمنين على الجهاد في سبيله ، وحذرهم من التخلف عن الخروج مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتبع ذلك بالحديث عما يجب عليهم إذا لم تكن المصلحة تقتضى النفير العام ، فقال - تعالى - : { وَمَا كَانَ المؤمنون } .
قال الجمل : وسبب نزول هذه الآية أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما بالغ في الكشف عن عيوب المنافقين ، وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك . قال المسلمون : والله لا نتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سرية بعثها ، فلما قدم - صلى الله عله وسلم - المدينة من تبوك ، وبعث السرايا ، أراد المسلمون أن ينفروا جميعا للغزة وأن يتركوا النبى - صلى الله عليه وسلم - وحده فنزلت هذه الآية .
والمعنى ، وما كان من شأن المؤمنين ، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد ، ويتركوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحجه بالمدينة ، وإنما يجب عليهم النفير العام إذا ما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك .
وقوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } معطوف على كلام محذوف ، ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا .
أى : فحين لم يكن هناك موجب لنفير الكافة ، فهلا نفر من كل فرقة من المؤمنين طائفة للجهاد ، وتبقى طائفة أخرى منهم { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين } أى : ليتعلموا أحكامه من رسولهم - صلى الله عليه وسلم - { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } أى : وليعلموهم ويخبروهم بما أمروا به أو نهوا عنه { إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ } من الغزو { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أى : لعل هؤلاء الراجعين إليهم من الغزو يحذرون ما نهوا عنه .
أى : أن على المسلمين في حالة عدم النفير العام ، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين .
قسم يبقى مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليتفقه في دينه ، وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله ، فإذا ما عاد المجاهدون ، فعلى الباقين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحكام .
وبذلك يجمع المسلمون بين المصلحتين : مصلحة الدفاع عن الدين بالحجة والبرهان ، ومصلحة الدفاع عنه بالسيف والسنان .
وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور العلماء يكون الضمير في قوله { لِّيَتَفَقَّهُواْ . . . وَلِيُنذِرُواْ } يعود إلى الطائفة الباقية مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
أما الضمير في قوله { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فيعود على الطائفة التي خرجت للجهاد ثم عادت .
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله { لِّيَتَفَقَّهُواْ . . . وَلِيُنذِرُواْ } يعود على الطائفة التي خرجت للجهاد .
وقد رجح هذا الاتجاه الإِمام ابن جرير فقال : وأما قوله { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ } فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : لتتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله لأهل دينه ولأصحابه رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإِسلام ، وظهوره على الأديان ، من لم يكن فقه ، { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله ، مثل الذي نزل بمن شاهدوا ، ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك ، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أى : لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك ، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرا من أن ينزل بهم ما انزل بالذين أخبروا خبرهم .
وقد علق صاحب المنار على رأى ابن جرير هذا بقوله : وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم ، فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر - وهو غير ممضون ولا مطرد - لا يسمى تفقها في الدين ، وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه ، فإن التفقه هو التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج ، والمتبادر من الدين علمه ، ولا يصح هذا المعى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فيزدادون في كل يوم علما وفقها بنزول القرآن . .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : وجوب طلب العلم ، والتفقه في دين الله وتعليم الناس إياه .
قال القرطبى : هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم ؛ لأن المعنى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبى - صلى الله عليه وسلم - مقيم لا ينفر فيتركوه وحده " فلولا نفر " بعدما علموا أن النفير لا يسعه جميعهم { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } وتبقى بقيتها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا ، فإذا رجع النافرون إليهم أخبرهم بما سمعوه وعلموه ، وفى هذا إيجاب التفقه ، في الكتاب والسنة ، وأنه على الكفاية دون الأعيان . .
ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين ؛ والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ؛ قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول اللّه - [ ص ] - وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة . مما اقتضى بيان حدود النفير العام - في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية - فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام ، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد ، وقد بلغ من عددهم - بعد تخلف المتخلفين في تبوك - نحواً من ثلاثين ألفاً ، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين . وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة ؛ وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة ، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية . . ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء :
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) . .
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية ، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . . والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية : أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم ، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة .
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري ، واختيار ابن جرير ، وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي ، لا يفقهه إلا من يتحرك به ؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ؛ ولا فقهوا فقههم ؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - [ ص ] - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن ، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة ، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم ، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ؛ ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس ، وتغليبه على الجاهلية ، بالحركة العملية .
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية " يجددون " بها الفقه الإسلامي أو " يطورونه " - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد ، وردهم إلى العبودية للّه وحده ، بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ؛ ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده ، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ؛ والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده ، واستيحاء شريعته وحدها ، تحقيقاً لهذه الدينونة ، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية ، وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه ، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة ، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين ، يجيء فقههم للدين من تحركهم به ، ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي ، يعيش بهذا الدين ، ويجاهد في سبيله ، ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .
فأما اليوم . . " فماذا " . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ؛ والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ؛ والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ؛ والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه ، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو " تجديده " أو " تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ؛ وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه ، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو " تجديده " أوتطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد ، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة ، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ؛ والمجتمع المسلم أنشأ " الفقه الإسلامي " . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده ، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ ، وليس " جاهزا " معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة ، ذات حجم معين ، وشكل معين ، وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة ، داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه ، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ؛ ومن ثم " يفصل " لها حكم مباشر على " قدها " . . فأما تلك الأحكام " الجاهزة " في بطون الكتب ؛ فقد " فصلت " من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها " جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ؛ وعلينا اليوم أن " نفصل " مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ؛ وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر ، اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ؛ ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ؛ وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار " تجديد الفقه الإسلامي " أو " تطويره " ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا . وقد بيّنا معنى الكافّة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين ، فقال بعضهم : هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام ، فلما نزل قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ انْصَرفوا عن البادية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية . فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفَةٌ قال : ناس مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي ، فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير ، لِيَتَفَقّهُوا وليسمعوا ما في الناس ، وما أنزل الله بعدهم ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم ، إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال في حديثه : فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ خرج بعض وقعد بعض ، يبتغون الخير .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحو حديثه ، عن أبي حذيفة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة ، غير أنه قال في حديثه : ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم ، وقال : ليَتَفَقّهُوا ليسمعوا ما في الناس .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوّهم ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قال : ليذهبوا كلهم ، فلولا نفر من كلّ حيّ وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين ، ليتفقه المتخلفون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين ، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده . فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني عصبة ، يعني السرايا ، ولا يتسروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا ، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ يقول : يتعلمون ما أنزل الله على نبيه ، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال : هذا إذا بعث نبيّ الله الجيوش أمرهم أن لا يعرّوا نبيه وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذّرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم .
حدثنا الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . الآية ، كان نبيّ الله إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل العذر ، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه . فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبيّ الله على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذي أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرءونهم ، ويفقهونهم في الدين . وهو قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول : إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبيّ الله قاعد ، ولكن إذا قعد نبيّ الله تسرّت السرايا وقعد معه معظم الناس .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين ، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون ، ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فإنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم ، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم . وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين ، فردّهم رسول الله إلىَ عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث ، وهو ما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال : كان ينطلق من كلّ حيّ من العرب عصابة فيأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدونه من دينهم ويتفقهون في دينهم ، ويقولون لنبيّ الله : ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم قال فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله ، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة . وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا : إن من أسلم فهو مّنا وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليعرّف أباه وأمه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة .
وقال آخرون : إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزّروهم في تخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ . . . إلى : إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ قال ناس من المنافقين : هلك من تخلف فنزلت : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ، ونزلت : وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ . . . الآية .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا سليمان الأحول عن عكرمة ، قال : سمعته يقول : لما نزلت : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وَما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ . . . إلى قوله : لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ، ونزلت : والّذِينَ يُحاجّونَ في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ . . . الآية .
واختلف الذين قالوا عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبيّ عليه الصلاة والسلام وحده في المعنيين بقوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ فقال بعضهم : عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالوا : معنى الكلام : فهلا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة ، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه من رواية سعيد بن أبي عروبة . وقد :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ . . . الآية ، قال : ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله . وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهمْ يقول : لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قالا : كافة ، ويدعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفةَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ قال : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : تأويله : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول الله سرية أن ينفر معها من كلّ قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة . طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد ، كما قال الله جلّ ثناؤه : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول : فهلاّ نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الأقوال التي رُويت عن ابن عباس ، وهو قول الضحاك وقتادة .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة ، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدوّ قبل هذه الآية بقوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ، ثم عقب ذلك جلّ ثناؤه بقوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته وإشخاص غيره عنها ، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم .
وأما قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ . فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه ، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم . لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ يقول : لعلّ قومهم إذا هم حذّروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون ، فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لأن النفر قد بيّنا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه ، وكان جلّ ثناؤه قال : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدّينِ علم أن قوله : «ليتفقهوا » إنما هو شرط للنفر لا لغيره ، إذ كان يليه دون غيره من الكلام .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون معناه : ليتفقه المتخلفون في الدين ؟ قيل : ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة ، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه . وبعد ، فإنه قال جلّ ثناؤه : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ عطفا به على قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ ولا شكّ أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها ، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت ، فما وجه إنذرا الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما ؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى ، لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة ، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة ، ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك .
قالت فرقة : سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكاناً ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ الكهف : 62 ] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك ، وقالت فرقة ، سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم } [ الكهف : 62 ] عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر ، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة } إلى قوله { يحذرون } بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر ، و «التفقه » هو من النافرين ، و «الإنذار » هو منهم ، والضمير في { رجعوا } لهم أيضاً ، وقالت فرقة هذه : الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة ، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع{[5974]} فنزلت الآية في ذلك ، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين ، وقال ابن عباس ما معناه : إن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا ، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفرداً وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين ، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم ، وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال ، والضمير في قوله { ليتفقهوا } عائد أيضاً على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى عليه وسلم ، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة ، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه ، والجمهور على أن «التفقة » إنما بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ، وقالت فرقة يشبه أن يكون «التفقه » في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته في الله تعالى ، ورجحه الطبري وقواه ، والآخر أيضاً قوي ، والضمير في قوله { لينذروا } عائد على المتفقهين بحسب الخلاف ، و «الإنذار » عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضاً كذلك .