تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

{ 141 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث والأنعام ، ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك ، ووظيفتهم اللازمة عليهم في الحروث والأنعام فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ } أي : بساتين ، فيها أنواع الأشجار المتنوعة ، والنباتات المختلفة .

{ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أي : بعض تلك الجنات ، مجعول لها عرش ، تنتشر عليه الأشجار ، ويعاونها في النهوض عن الأرض . وبعضها خال من العروش ، تنبت على ساق ، أو تنفرش في الأرض ، وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها ، وخيراتها ، وأنه تعالى ، علم العباد كيف يعرشونها ، وينمونها .

{ وَ } أنشأ تعالى { النخل وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } أي : كله في محل واحد ، ويشرب من ماء واحد ، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل .

وخص تعالى النخل والزرع على اختلاف أنواعه لكثرة منافعها ، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق . { وَ } أنشأ تعالى { الزيتون وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا } في شجره { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في ثمره وطعمه . كأنه قيل : لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات ، وما عطف عليها ؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } أي : النخل والزرع { إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أي : أعطوا حق الزرع ، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع ، أمرهم أن يعطوها يوم حصادها ، وذلك لأن حصاد الزرع بمنزلة حولان الحول ، لأنه الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع ، ويكون الأمر فيها ظاهرا لمن أخرجها ، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج .

وقوله : { وَلَا تُسْرِفُوا } يعم النهي عن الإسراف في الأكل ، وهو مجاوزة الحد والعادة ، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة ، والإسراف في إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه ، ويضر نفسه أو عائلته أو غرماءه ، فكل هذا من الإسراف الذي نهى الله عنه ، الذي لا يحبه الله بل يبغضه ويمقت عليه .

وفي هذه الآية دليل على وجوب الزكاة في الثمار ، وأنه لا حول لها ، بل حولها حصادها في الزروع ، وجذاذ النخيل ، وأنه لا تتكرر فها الزكاة ، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة ، إذا كانت لغير التجارة ، لأن الله لم يأمر بالإخراج منه إلا وقت حصاده .

وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر ، أنه لا يضمنها ، وأنه يجوز الأكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه ، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة ، بل يزكي المال الذي يبقى بعده .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبعث خارصا ، يخرص للناس ثمارهم ، ويأمره أن يدع لأهلها الثلث ، أو الربع ، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره ، من أهلها ، وغيرهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

ثم بين - سبحانه - أنه هو الخالق لكل شىء من الزروع والثمار والأنعام التى تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت لهم فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ . . . . } .

قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } .

أنشأ : أى أوجد وخلق . والجنات : البساتين والكروم المتلفة الأشجار .

ومعروشات : أصل العرش فى اللغة شىء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً من بابى - ضرب ونصر - ، وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف . فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك . قال ابن عباس : المعروشات . ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك . وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر .

وقيل المعروشات وغي المعروشات كلاهما فى الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا .

وقيل المعروشات ما غرسه الناس فى البساتين واهتمووا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات . هو ما أنبته الله فى البرارى والجبال من كرم وشجر .

أى : وهو - سبحانه - الذى أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التى منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع .

وقوله : { والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ، والمراد بالزرع جميع الحبوب التى يقتات بها .

وإنما أفردها مع أنهما داخلان فى الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت فى الجنات .

و { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أى ، ثمره وحبه فى اللون والطعم والحجم والرائحة .

والضمير فى أكله راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف المأكول فى كل منهما فى الهيئة والطعم .

قال الجمل : وجملة . { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائداً له غدا " .

وقوله : { والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر وغير متشابه فى الطعم أو متشابها بعض أفرادها فى اللون أو الطعم أو الهيئة " وغير متشابه فى بعضها .

قال القرطبى : وفيه ألدة ثلاثة .

أحدها : ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير .

الثانى : على المنة منه - سبحانه - علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شىء .

الثالث : على القدرة فى أن يكون الماء الذى من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأي الفلاسفة وأسسها ، هل هى فى قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب .

كلا ، لا يتم ذلك فى العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له فى كل شىء آية ونهاية .

ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب . وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم " .

ثم ذكر - سب-انه - المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التى أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك . والأمر للإباحة . وفائدة التقييد بقوله { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك .

وقيل فائدته : الترخيص للمالك فى الأكل من قبل أداء حق الله - تعالى - لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شىء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل .

ثم أمرهم - سبحانه - بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أى ، كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده .

ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير .

وأصحاب هذا الراى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة .

وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده .

ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية .

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات ، وفى الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة فى العزم على المبادرة إليه .

والمعنى : اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء .

وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله .

ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت ، { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } . أى لا تسرفوا فى أكلكم قبل الحصاد ولا فى صدقاتكم ولا فى أى شأن من شئونكم ، لأنه - سبحانه - لا يحب المسرفين .

وقال ابن جريج ، نزلت فى ثبات بن قيس ، قطع نخلا له فقال . لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية .

وقال عطاء ، نهوا عن السرف فى كل شىء .

وقال إياس بن معاوية ، ما جاوزت به أمر الله هو سرف .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

136

بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها ، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) . . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ؛ ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام ، متاعا للناس ونعمة ؛ ذرأها لهم ليشكروا له ؛ ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم ، فهو الغني ذو الرحمة ؛ إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً ، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام ؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا ، ولأولئك نصيبا ، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين-في النصيب الذي جعلوه لله ؟ !

إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده ، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !

( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر ، وآتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين ) .

إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ؛ ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان ، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه ، وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها( حمولة ) عالية القوائم بعيدة في الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها ( فرشا ) صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .

إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة في هذه الأرض ؛ ونوّعها هذا التنويع ؛ وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - في مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله في شأن الزروع والأنعام والأموال ؟

إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس ، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ؛ هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال :

وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار ، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات في صدد قضية الحاكمية ، كما حشدها من قبل في صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .

وعندما يذكر الزروع والثمار يقول :

( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين ) . .

والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا في التقديم للسورة : إن الآية مكية ، لأن السياق في الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت في المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده ، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات في الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .

وقوله تعالى :

( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .

ينصرف إلى العطاء ، كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا ، فقال الله سبحانه : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .

وعندما يذكر الأنعام يقول :

كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . .

ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله ؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين ؟ !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَ جَنّاتٍ مّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ } .

وهذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله ، وتنبيه منه لهم على موضع إحسانه ، وتعريف منه لهم ما أحلّ وحرّم وقسمَ في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقّا . يقول تعالى ذكره : وربكم أيها الناس أنْشَأ : أي أحدث وابتدع خلقا ، لا الاَلهة والأصنام ، جَنّاتٍ يعني : بساتين ، مَعْرُوشاتٍ وهي ما عرش الناس من الكروم ، وغيرَ مَعْرُوشاتٍ : غير مرفوعات مبنيات ، لا ينبته الناس ولا يرفعونه ، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : مَعْرُوشاتٍ يقول : مسموكات .

وبه عن ابن عباس : وَهُوَ الّذِي أنْشأَ جَنّاتٍ مَعرُوشاتٍ وغيْرَ مَعْرُوشاتٍ فالمعروشات : ما عَرَش الناس وغير معروشات : ما خرج في البرّ والجبال من الثمرات .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما «جنات » فالبساتين وأما «المعروشات » : فما عُرِش كهيئة الكرم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : وَهُوَ الّذِي أنْشأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ قال : ما يُعْرَش من الكروم . وغيرَ مَعْرُوشاتٍ قال : ما لا يعرش من الكرم .

القول في تأويل قوله تعالى : والنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفا أُكُلُهُ والزّيْتُونَ والرّمّانَ مُتَشابها وغيرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَره إذَا أثْمَرَ .

يقول جلّ ثناؤه : وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله ، يعني بالأُكل : الثمر ، يقول : وخلق النخل والزرع مختلفا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحبّ والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه في الطعم ، منه الحلو والحامض والمزّ كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : مُتَشابِها وغيرَ مُتَشابِهٍ قال : متشابها في المنظر ، وغير متشابه في الطعم .

وأما قوله : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أْثمَرَ فإنه يقول : كلوا من رطبه ما كان رطبا ثمره . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو همام الأهوازي ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، في قوله : كُلُوا مِنْ ثَمَره إذَا أْثمَرَ قال : من رطبه وعنبه .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن الزبرقان ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة في قوله : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ قال : من رطبه وعنبه .

القول في تأويل قوله تعالى : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبّ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَاده قال : الزكاة .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا يزيد بن درهم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَاده قال : الزكاة المفروضة .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الحجاج بن أوطاة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : العشر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن محمد بن عبيد الله ، عن عبد الله بن شداد ، عن ابن عباس : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : العشر ونصف العشر .

حدثنا عمرو بن عليّ وابن وكيع وابن بشار ، قالوا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إبراهيم بن نافع المكيّ ، عن ابن عباس ، عن أبيه ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : الزكاة .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن حيان الأعرج ، عن جابر بن زيد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : الزكاة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : هي الصدقة . قال : ثم سئل عنها مرّة أخرى ، فقال : هي الصدقة من الحبّ والثمار .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الله ، عن عمرو بن سليمان وغيره ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : الصدقة المفروضة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : هي الصدقة من الحبّ والثمار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ يعني بحقه : زكاته المفروضة ، يوم يُكال أو يُعلم كيله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِه وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده ، وهو أن يعلم ما كيله وحقه ، فيخرج من كلّ عشرة واحدا ، وما يلتقط الناس من سنبله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وحقه يوم حصاده : الصدقة المفروضة ، ذُكِر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سنّ فيما سقت السماء أو العين السائحة ، أو سقاه الطلّ والطلّ الندى أو كان بعلاً العشر كاملاً وإن سقى برشاء : نصف العشر . قال قتادة : وهذا فيما يكال من الثمرة ، وكان هذا إذا بلغت الثمرة خمسة أوسق ، وذلك ثلاث مئة صاع ، فقد حقّ فيها الزكاة ، وكانوا يستحبون أن يعطوا مما لا يكال من الثمرة على قدر ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وطاوس : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قالا : هو الزكاة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الحجاج ، عن سالم المكيّ ، عن محمد ابن الحنفية ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : يوم كيله ، يعطي العشر أو نصف العشر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم المكيّ ، عن محمد ابن الحنفية ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : العشر ، ونصف العشر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، وعن قتادة : وآتُوا حَقّهُ يَوْم حَصَادِهِ قالا : الزكاة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : العشر ونصف العشر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن الحكم بن عتيبة ، عن ابن عباس ، مثله .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني : يوم كيله ما كان من برّ أو تمر أو زبيب . وحقه : زكاته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ ، وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : كل منه ، وإذا حصدته فآت حقه . وحقه : عشوره .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن أنه قال في هذه الاَية : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : الزكاة إذا كِلْته .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن ، عن قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : الزكاة .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت ابن زيد بن أسلم عن قول الله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فقلت له : هو العشور ؟ قال : نعم ، فقلت له : عن أبيك ؟ قال : عن أبي وغيره .

وقال آخرون : بل ذلك حقّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال ، غير الصدقة المفروضة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن أبيه : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : شيئا سوى الحقّ الواجب . قال : وكان في كتابه «عن عليّ بن الحسين » .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : القبضة من الطعام .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جرير ، عن عطاء : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : من النخل والعنب والحبّ كله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أرأيت ما حصدت من الفواكه ؟ قال : ومنها أيضا تؤتي . وقال : من كلّ شيء حصدت تؤتي منه حقه يوم حصاده ، من نخل أو عنب أو حبّ أو فواكه أو خضر أو قصب ، من كلّ شيء من ذلك . قلت لعطاء : أواجب على الناس ذلك كله ؟ قال : نعم ثم تلا : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ . قال : قلت لعطاء : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ هل في ذلك شيء مؤقت معلوم ؟ قال : لا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : يعطي من حصاده يومئذٍ ما تيسر ، وليس بالزكاة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الملك ، عن عطاء : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حصَادِهِ قال : ليس بالزكاة ، ولكن يطعم من حضره ساعتئذٍ حَصَده .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن العلاء بن المسيب ، عن حماد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : كانوا يعطون رطبا .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : إذا حضرك المساكين طرحتَ لهم منه ، وإذا أنقيته وأخذت في كيله حثوت لهم منه ، وإذا علمت كيله عزلت زكاته ، وإذا أخذت في جداد النخل طرحت لهم من التفاريق وإذا أخذت في كيله حثوت لهم منه ، وإذا علمت كيله عزلت زكاته .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : سوى الفريضة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : يُلِقي إلى السّؤّال عند الحصاد من السنبل ، فإذا طبن أو طين الشكّ من أبي جعفر ألقى إليهم . فإذا حمله فأراد أن يجعله كُدْسا ألقى إليهم ، وإذا داس أطعم منه ، وإذا فرغ وعلم كم كيله عزل زكاته . وقال : في النخل عند الجَدَاد يطعم من الثمرة والشماريخ ، فإذا كان عند كيله أطعم من التمر ، فإذا فرغ عزل زكاته .

حدثنا عمرو بن عليّ ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : إذا حصد الزرع ألقى من السنبل ، وإذا جلّ النخل ألقى من الشماريخ ، فإذا كاله زكّاه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : عند الحصاد ، وعند الدّياس ، وعند الصرام يقبض لهم منه ، فإذا كاله عزل زكاته .

وبه عن سفيان ، عن مجاهد مثله ، إلا أنه قال : سوى الزكاة .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : شيء سوى الزكاة في الحصاد والجداد ، إذا حصدوا وإذا جدّوا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، في قول الله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : واجب حين يصرم .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال : قال في هذه الاَية : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : إذا حصد أطعم ، وإذا أدخله البيدر ، وإذا داسه أطعم منه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن ابن عمر ، قال : يطعم المُعترّ سوى ما يعطي من العشر ونصب العشر .

وبه عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : قبضة عند الحصاد ، وقبضة عند الجَدَاد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، قال : كانوا يعطون من اعترّ بهم الشيء .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : الضّغْث .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : يعطي مثل الضغث .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا حماد ، عن إبراهيم : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : مثل هذا من الضغث . ووضع يحيى إصبعه الإبهام على المفصل الثاني من السبّابة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : نحو الضعث .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : يعطي ضغثا .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا كثير بن هشام ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزد بن الأصمّ ، قال : كان النخل إذا صُرم يجيء الرجل بالعِذق من نخله فيعلقه في جانب المسجد ، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه ، فإذا تناثر أكل منه . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حسن أو حسين ، فتناول تمرة ، فانتزعها من فيه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايأكل الصدقة ، ولا أهل بيته . فذلك قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، ويزيد بن الأصمّ ، قالا : كان أهل المدينة إذا صَرموا يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد ، ثم يجيء السائل فيضربه بعصاه ، فيسقط منه ، وهو قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن جعفر ، عن يزيد وميمون ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قالا : كان الرجل إذا جدّ النخل يجيء بالعذق فيعلقه في جانب المسجد ، فيأتيه المسكين فيضربه بعصاه ، فيأكل ما يتناثر منه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : لَقَطُ السنبل .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزريّ ، عن مجاهد ، قال : كانوا يعلقون العذق في المسجد عند الصرام ، فيأكل منه الضعيف .

وبه عن معمر ، قال : قال مجاهد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ يطعم الشيء عند صرامه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : الضغث وما يقع من السنبل .

وبه عن سالم ، عن سعيد : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : العلف .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : كان هذا قبل الزكاة للمساكين ، القبضة والضغث لعلف دابته .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا محمد بن رفاعة ، عن محمد بن كعب ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : ما قلّ منه أو كثر .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : عند الزرع يعطي القبض ، وعند الصرام يعطي القبض ، ويتركهم فيتتبعون آثار الصرام .

وقال آخرون : كان هذا شيئا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة ، ثم نسخته الصدقة المعلومة ، فلا فرض في مال كائنا ما كان زرعا كان أو غرسا ، إلا الصدقة التي فرضها الله فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : نسخها العشر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، قال : نسخها العشر ونصف العشر .

وبه عن حجاج ، عن سالم ، عن ابن الحنفية ، قال : نسخها العشر ، ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : هذا قبل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة نسختها ، فكانوا يعطون الضغث .

حدثنا ابن حميد وأبو وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : كانوا يفعلون ذلك حتى سنّ العشر ونصف العشر فلما سنّ العشر ونصف العشر ترك .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : هي منسوخة ، نسختها العشر ونصف العشر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : نسختها العشر ونصف العشر .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم ، قال : نسختها العشر ونصف العشر .

وبه عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : نسختها الزكاة .

وبه عن سفيان ، عن السديّ ، قال : نسختها الزكاة : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : هذه السورة مكية نسختها العشر ونصف العشر ، قلت : عمن ؟ قال : عن العلماء .

وبه عن سفيان ، عن مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم ، قال : نسختها العشء ونصف العشر .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، أما : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فكانوا إذا مرّ بهم أحد يوم الحصاد أو الجداد أطعموه منه ، فنسخها الله عنهم بالزكاة ، وكان فيما أنبتت الأرض العشر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : كانوا يرضخون لقرابتهم من المشركين .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : نسخه العشر ونصف العشر كانوا يعطون إذا حصدوا وإذا ذروا ، فنسختها العشر ونصف العشر .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : كان ذلك فرضا فرضه الله على المؤمنين في طعامهم وثمارهم التي تخرجها زروعهم وغروسهم ، ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة ، والوظيفة المعلومة من العشر ونصف العشر وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم أن صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدياس والتنقية والتذرية ، وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان قوله جلّ ثناؤه : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ينبىء عن أنه أمر من الله جلّ ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده ، وكان يوم حصاده هو يوم جدّه وقطعه والحبّ لا شكّ أنه في ذلك اليوم في سنبله ، والثمر وإن كان ثمر نخل أو كرم غير مستحكم جفوفه ويبسه ، وكانت الصدقة من الحبّ إنما تؤخذ بعد دياسه وتذريته وتنقيته كيلاً ، والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام يبسه وجفوفه كيلاً عُلم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حصده غير الذي يجب إيتاؤه المساكني يوم حصاده .

فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك إيجابا من الله في المال حقا سوى الصدقة المفروضة ؟ قيل : لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضا واجبا أو نفلاً ، فإن يكن فرضا واجبا فقد وجب أن يكون سبيله سبيل الصدقات المفروضات التي من فرّط في أدائها إلى أهلها كان بربه آثما ولأمره مخالفا ، وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجب وجوب الزكاة سوى ما يجب من النفقة لمن يلزم المرء نفقته ما ينبيء عن أن ذلك ليس كذلك . أو يكون ذلك نفلاً ، فإن يكن ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الخيار في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر ، وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك ما ينبيء عن أن ذلك ليس كذلك . وإذا خرجت الاَية من أن يكون مرادا بها الندب ، وكان غير جائز أن يكون لها مخرج في وجوب الفرض بها في هذا الوقت ، علم أنها منسوخة . ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلاً على صحته ، أنه جلّ ثناؤه أتبع قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ ومعلوم أن من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدر ، أن القائم بأخذ ذلك ساستهم ورعاتهم . وإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك ، والاَخذ مجبرٌ ، وإنما يأخذ الحقّ الذي فرض الله فيه ؟ .

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القّيمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدّي في مال ربّ المال والتجاوز إلى أخذ ما لم يبح له أخذه ، فإن آخر الاَية ، وهو قوله : وَلا تُسْرِفُوا معطوف على أوّله وهو قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ . فإن كان المنهي عن الإسراف القيم بقبض ذلك ، فقد يجب أن يكون المأمور بإيتانه المنهي عن الإسراف فيه ، وهو السلطان . وذلك قولٌ إن قاله قائل ، كان خارجا من قول جميع أهل التأويل ومخالفا المعهود من الخطاب ، وكفى بذلك شاهدا على خطئه .

فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون معنى قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ : وآتوا حقه يوم كيله ، لا يوم فَصْله وقطعه ، ولا يوم جَدَاده وقطافه ، فقد علمت من قال ذلك من أهل التأويل ؟ وذلك ما :

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : يوم كيله .

وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الحجاج ، عن سالم المكيّ ، عن محمد ابن الحنفية ، قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : يوم كيله يعطي العشر ونصف العشر .

مع آخرين ، قد ذُكرت الرواية فيما مضى عنهم بذلك ؟ قيل : لأن يوم كيله غير يوم حصاده . ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين : إما أن يكونوا وجهوا معنى الحصاد إلى معنى الكيل ، فذلك ما لا يعقل في كلام العرب لأن الحصاد والحصد في كلامهم الجدّ والقطع ، لا الكيل . أو يكونوا وجهوا تأويل قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ إلى وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كلتموه . فذلك خلاف ظاهر التنزيل ، وذلك أن الأمر في ظاهر التنزيل بإيتاء الحقّ منه يوم حصاده لا بعد يوم حصاده . ولا فرق بين قائل : إنما عنى الله بقوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ بعد يوم حصاده ، وآخر قال : عنى بذلك قبل يوم حصاده ، لأنهما جميعا قائلان قولاً دليل ظاهر التنزيل بخلافه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ .

اختلف أهل التأويل في الإسراف الذي نهى الله عنه بهذه الاَية ، ومن المنهي عنه . فقال بعضهم : المنهيّ عنه : ربّ النخل والزرع والثمر والسرف الذي نهى الله عنه في هذه الاَية ، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف بربّ المال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : حدثنا عاصم ، عن أبي العالية ، في قوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا . . . الاَية ، قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة ، ثم تسارفوا ، فأنزل الله : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفينَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا سوى الزكاة ، ثم تباروا فيه وأسرفوا ، فقال الله : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفينَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ، ثم تسارفوا ، فقال الله : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يِحِبّ المُسْرِفِينَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، جَدّ نخلاً فقال : لا يأتينّ اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فقال الله : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : وَلا تُسْرِفُوا يقول : لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد ، أم في كلّ شيء ؟ قال : بلى في كلّ شيء ينهى عن السرف . قال : ثم عاودته بعد حين ، فقلت : ما قوله : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفينَ ؟ قال : ينهى عن السرف في كل شيء . ثم تلا : لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سفيان بن حسين ، عن أبي بشر ، قال : أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة ، فسألوه : ما السرف ؟ فقال : ما تجاوز أمر الله فهو سرف .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تُسْرِفُوا لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء .

وقال آخرون : الإسراف الذي نهى الله عنه في هذا الموضع : منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربّ المال بإيتائه أهله بقوله : وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الله ، عن عمرو بن سليم وغيره ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : وَلا تُسْرِفُوا قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن الزبرقان ، قال : حدثنا محمد بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ والسرف : أن لا يعطي في حقّ .

وقال آخرون : إنما خوطب بهذا السلطان : نهي أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُسْرِفُوا قال : قال للسلطان : لا تسرفوا ، لا تأخذوا بغير حقّ فكانت هذه الاَية بين السلطان وبين الناس ، يعني قوله : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ . . . الاَية .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى بقوله : ولاَ تُسْرِفُوا عن جميع معاني الإسراف ، ولم يخصص منها معنى دون معنى . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الإسرف في كلام العرب : الإخطاء بإصابة الحقّ في العطية ، إما بتجاوز حدّه في الزيادة وإما بتقصير عن حدّه الواجب كان معلوما أن المفرق ماله مباراة والباذله للناس حتى أجحفت به عطيته ، مسرف بتجاوزه حدّ الله إلى ما كيفته له ، وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه ، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه ، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها ، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه . كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون ، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله : وَلا تُسْرِفُوا في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم ، إذ كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده ، فإن الاَية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العامّ ، بل عامة آي القرآن كذلك ، فكذلك قوله : وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ . ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى الإسراف أنه على ما قلنا قول الشاعر :

أعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدوها ثَمانِيَةٌ ***ما في عَطائِهِمُ مَنّ وَلا سَرَفُ

يعني بالسرف : الخطأ في العطية .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

{ وهو الذي أنشأ جنات } من الكروم . { معروشات } مرفوعات على ما يحملها . { وغير معروشات } ملقيات على وجه الأرض . وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال . { والنخل والزرع مختلفا أكله } ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية ، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه ، أو النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه ، أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإنشاء . { والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه } يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضهما . { كلوا من ثمره } من ثمر كل واحد من ذلك . { إذا أثمر } وإن لم يدرك ولم يينع بعد . وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى . { وآتوا حقه يوم حصاده } يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية ، وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقية . وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي { حصاده } بكسر الحاء وهو لغة فيه . { ولا تسرفوا } في التصدق كقوله تعالى : { ولا تبسطها كل البسط } { إنه لا يحب المسرفين } لا يرتضي فعلهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه }

الواو في : { وهو الذي أنشأ } للعطف ، فيكون عطف هذه الجملة على جملة { وحرّموا ما رزقهم الله } [ الأنعام : 140 ] تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم ، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم ، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوعِ عن الغي ، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } [ الأنعام : 99 ] لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع ، وأنَّه المنفرد بالخلق ، فكيف يشركون به غيره . ولذلك ذيّلها بقوله : { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] ، وعطف عليها قوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] الآيات .

والمقصود من هذه : الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله : { كلوا من ثمره إذا أثمر } .

والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين ، لأنَّه اعتبار وامتنان ، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك ، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين .

وتعريف المسند يفيد الاختصاص ، أي هو الّذي أنشأ لا غيره ، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها ، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه .

والإنشاءُ : الإيجاد والخلق ، قال تعالى : { إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً } [ الواقعة : 35 ] أي نساء الجنّة .

والجنّات هي المكان من الأرض النّابت فيه شجر كثير بحيث يَجِنّ أي يَستر الكائن فيه ، وقد تقدّم عند قوله : { كمثل جنّة برُبْوة } في سورة البقرة ( 265 ) . وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء ، ودفععِ ما يفسدها أو يقطع نبتها ، كقوله : { أنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون } [ الواقعة : 64 ] .

والمعروشات : المرفوعات . يقال : عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض ، لأنّ ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه الأرض . وعَرش فعل مشتقّ من العَرْش وهو السقف ، ويقال للأعمدة التي تُرفع فوقها أغصان الشّجر فتصير كالسّقف يَستظلّ تحته الجالسُ : العَريشُ . ومنه ما يذكر في السيرة : العريش الّذي جُعل للنّبيء صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ، وهو الّذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر . ووصف الجنّات بمعروشات مجاز عقلي ، وإنَّما هي معروش فيها ، والمعروش أشجارها .

وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل ، ومن محاسنها أنَّها تزيّن وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر .

وقوله : { معروشات وغير معروشات } صفة : ل { جنّات } قصد منها تحسين الموصوف والتّذكيرُ بنعمة الله أن ألْهَم الإنسان إلى جعلها على صفتين ، فإنّ ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنّة ، كقوله في شأن الأنعام { ولكم فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .

و { مختلفا أكلهُ } حال من الزّرع ، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال ، ويعلم أنّ النّخل والجنّات كذلك ، والمقصود التّذكير بعجيب خلق الله ، فيفيد ذكرُ الحال مع أحد الأنواع تذكّر مثله في النوع الآخر ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي وإليه ، وهي حال مقدّرة على ظاهر قول النّحويين لأنَّها مستقبلة عن الإنشاء ، وعندي أنّ عامل الحال إذا كان ممّا يحصل مَعناه في أزمنة ، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها ، فهي جديرة بأن تكون مقارنة ، كما هنا .

( والأُكْل ) بضمّ الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير ، و بضمّهما قرأه الباقون ، هو الشّيء الّذي يؤكل ، أي مختلفا مَا يؤكل منه .

وعُطف : { والزيتون والرمان } على : { جنّاتٍ . . . والنّخلَ والزّرعَ } . والمراد شجر الزّيتون وشجر الرمّان . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السّماء ماء } الآية في هذه السّورة ( 99 ) .

إلاّ أنَّه قال هناك : { مُشْتَبِها } [ الأنعام : 99 ] وقال هنا : { متشابها } وهما بمعنى واحد لأنّ التّشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التّفاعل للمبالغة ألا ترى أنَّهما استويا في قوله : { وغير متشابه } في الآيتين .

{ كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }

غُيّر أسلوبُ الحكاية عن أحوال المشركين فأُقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنّة وهذا الحكم ؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما مَنّ الله به عليهم .

والثَمَر : بفتح الثّاء والميم وبضمّهما وقرىء بهما كما تقدّم بيانه في نظيرتها .

والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حقّ الإنسان الّذي لا يجب عليه أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة . والمقصود الردّ على الّذين حجّروا على أنفسِهِم بعض الحرث .

و { إذا } مفيدة للتّوقيت لأنها ظرف ، أي : حين إثماره ، والمقصود من التّقييد بهذا الظّرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيداً لقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } أي : كلوا منه قبل أداء حقّه . وهذه رخصة ومنّة ، لأنّ العزيمة أن لا يأكلوا إلاّ بعد إعطاء حقّه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحقّ ، إلاّ أنّ الله رخّص للنّاس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنَّهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقّبه بقوله : { ولا تسرفوا } كما سيأتي .

وإفراد الضّميرين في قوله : { من ثمره إذا أثمر } على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .

والأمر في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } خطاب خاصّ بالمؤمنين كما تقدم . وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقّاً .

وأضيف الحقّ إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ، أي الحقّ الكائن فيه .

وقد أُجمل الحقّ اعتماداً على ما يعرفونه ، وهو : حقّ الفقير ، والقربى ، والضّعفاء ، والجيرة . فقد كان العرب ، إذا جَذّوا ثمارهم ، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [ القلم : 23 ، 24 ] . فلمّا جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحقّ وسمَّاه حقاً كما في قوله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 ، 25 ] ، وسمّاه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنّه أجمل مقداره وأجمل الأنواعَ الّتي فيها الحقّ ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصُبُها ومقاديرها . ثمّ شرعت الزّكاة وبيّنت السنّة نصبها ومقاديرها .

والحِصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثّمر والحبّ من أصوله ، وهو مصدر على وزننِ الفِعال أو الفَعال . قال سيبويه « جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزّمان على مثال فِعال وذلك الصِّرام والجِزاز والجِدَاد والقِطاع والحِصاد ، وربَّما دخلتِ اللّغة في بعض هذا ( أي اختلفت اللّغاتُ فقال بعض القبائل حَصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء ) فكان فيه فعال وفَعال فإذا أرادوا الفعل على فَعَلْت قالوا حَصَدته حَصْداً وقَطَعْته قطعاً إنَّما تريد العمل لا انتهاء الغاية » .

وقرأه نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بكسر الحاء . وقرأ أبُو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الحاء .

وقد فرضت الزّكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصّلاة ، أو بعده بقليل ، لأنّ افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين وهم كثيرون في صدر الإسلام ، لأنّ الّذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضّروري أن يسدّ أهل الجدة والقوّة من المسلمين خَلَّتهم . وقد جاء ذكر الزّكاة في آيات كثيرة ممّا نزل بمكّة مثل سورة المزمّل وسورة البيّنة وهي من أوائل سور القرآن ، فالزّكاة قرينة الصّلاة . وقول بعض المفسّرين : الزّكاة فرضت بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] وهي مدنيَّة ، ثمّ تطرّقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحقّ هنا الزّكاة ، لأنّ هذه السّورة مكّيّة بالاتّفاق ، وإنَّما تلك الآية مؤكّدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة ، ولأنّ المراد منها أخذها من المنافقين أيضاً ، وإنَّما ضبطت الزّكاة . ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النُّصب والمُخْرَج منه ، بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكّة ، وقد حملها مالك على الزّكاة المعيّنة المضبوطة في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وجمع من التّابعين كثير . ولعلّهم يرون الزّكاة فرضت ابتداء بتعيين النّصب والمقادير ، وحَملها ابنُ عمر ، وابنُ الحنفية ، وعليّ بن الحسين ، وعطاء ، وحمَّاد ، وابن جبير ، ومجاهد ، على غير الزّكاة وجعلوا الأمر للنّدب ، وحملها السُدّي ، والحسن ، وعطيّة العوفي ، والنّخعي ، وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثمّ نسختها الزّكاة .

وإنَّما أوجب الله الحقّ في الثّمار والحبّ يوم الحصاد : لأنّ الحصاد إنَّما يراد للادّخار وإنَّما يَدّخِر المرء ما يريده للقوت ، فالادّخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزّكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالّذي ليست له إلاّ شجرة أو شجرتان فإنَّما يأكلُ ثمرها مخضوراً قبل أن ييبس ، فلذلك رخَّصت الشّريعة لصاحب الثّمرة أن يأكل من الثّمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حقّ الفقراء إلاّ عند الحصاد . ثمّ إنّ حصاد الثّمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادّخارها ، وأمَّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يُفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد . ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنَّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتَّمر والزّرع والزّيتون ، من زيته أو من حبّه ، بخلاف الرمّان والفواكه .

وعلى القول المختار : فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبيء صلى الله عليه وسلم فلا يُتعلّق بإطلاقها ، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً .

وقوله : { ولا تسرفوا } عطف على { كلوا } ، أي : كلوا غيرَ مسرفين . والإسراف والسّرف : تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) . وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] . والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة ، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ .

وقيل عطف على { وآتوا حقه } أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب ، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف ، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة ، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله ، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك .

وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف . وأكّد ب { إنّ } لزيادة تقرير الحكم ، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها ، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبّة مختلف المراتب ، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود .

ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله : { إنَّه لا يحبّ المسرفين } تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتّى قال بعضهم : إنَّها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه .

فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربَّما ضاق عليه ماله ، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة ، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة . وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة . فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا ، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته ، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة . ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً : « لاَ خَيْرَ في السَّرف ، ولا سرف في الخير » وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ( 31 ) : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] وقول النَّبيء صلى الله عليه وسلم " ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال " .