{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : غليظ شرس الخلق ، قاس غير منقاد للحق ، { زَنِيمٍ } أي : دعي ، ليس له أصل و [ لا ] مادة ينتج منها الخير ، بل أخلاقه أقبح الأخلاق ، ولا يرجى منه فلاح ، له زنمة أي : علامة في الشر ، يعرف بها .
وحاصل هذا ، أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذاب ، خسيس النفس ، سيئ الأخلاق ، خصوصًا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس ، والتكبر على الحق وعلى الخلق ، والاحتقار للناس ، كالغيبة والنميمة ، والطعن فيهم ، وكثرة المعاصي .
{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } والعتل : هو الجاف الغليظ ، القاسى القلب : الفظ الطبع ، الأكول الشروب . . بدون تمييز بين حلال وحرام . مأخوذ من عتله يعتُلِه - بكسر التاء وضمها - إذا جره بعنف وغلظة . .
{ والزنيم } هو اللصيق بالقوم دون أن يكون منهم ، وإنما هو دعي فيهم ، حتى لكأنه فيهم كالزنمة ، وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز أو الشأة . .
وقيل : الزنيم ، هو الشخص الذي يعرف بالشر واللؤم بين الناس ، كما تعرف الشاة بزنمتها . أي : بعلامتها .
ومعنى : " بعد ذلك " : كمعنى " ثم " أي : ثم هو بعد كل تلك الصفات القبيحة السابقة : جاف غليظ ، ملصق بالقوم ، دعي فيهم . . .
فهذه تسع صفات ، كل صفة منها قد بلغت النهاية في القبح والسوء ، ساقها - سبحانه - لذم الوليد بن المغيرة وأشباهه في الكفر والفجور .
وهو بعد هذا كله( عتل ) . . وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات ، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات . فقد يقال : إن العتل هو الغليظ الجافي . وإنه الأكول الشروب . وإنه الشره المنوع . وإنه الفظ في طبعه ، اللئيم في نفسه ، السيء في معاملته . . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : " العتل كل رغيب الجوف ، وثيق الخلق ، أكول شروب ، جموع للمال ، منوع له " . . ولكن تبقى كلمة( عتل )بذاتها أدل على كل هذا ، وأبلغ تصويرا للشخصية الكريهة من جميع الوجوه .
وهو زنيم . . وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام - وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم - والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم ، أو أن نسبه فيهم ظنين . ومن معانيه ، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره . والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة . وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهينا في القوم ، وهو المختال الفخور .
وقوله : عُتُلّ يقول : وهو عُتُلّ ، والعتلّ : الجافي الشديد في كفره ، وكلّ شديد قويّ فالعرب تسمية عُتُلاّ ، ومنه قول ذي الإصبع العَدْوانيّ :
والدّهْرُ يَغْدُو مِعْتَلاً جَذَعا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : عُتُلّ العتلّ : العاتل الشديد المنافق .
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا أبو عامر العَقْدِيّ ، قال : حدثنا زهير بن محمد ، عن زيد ابن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن وهب الذّمارِيّ ، قال : «تبكي السماء والأرض من رجل أتمّ الله خلقه ، وأرحب جوفه ، وأعطاه مقضما من الدنيا ، ثم يكون ظلوما للناس ، فذلك العتلّ الزنيم » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن أبي الزبير ، عن عبيد بن عمير ، قال : العتلّ : الأكول الشروب القويّ الشديد ، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ، يدفع المَلَكُ من أولئك سبعين ألفا دفعة في جهنم .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، في قوله : عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ قال : العتلّ : الشديد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزِين ، في قوله : عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ قال : العتلّ : الصحيح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن كثير بن الحارث ، عن القاسم ، مولى معاوية قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتُلّ الزنيم ، قال : «الفاحِشُ اللّئيمُ » .
قال : معاوية ، وثني عياض بن عبد الله الفهريّ ، عن موسى بن عقبة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : عُتُلّ بَعْدَ ذلك زَنَيمٍ قال : فاحش الخُلق ، لئيم الضريبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ قال : الحسن وقتادة : هو الفاحش اللئيم الضريبة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله عُتُلّ قال : هو الفاحش اللئيم الضريبة .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تَبْكي السّماءُ مِنْ عَبْدٍ أصَحّ اللّهُ جِسْمَهُ ، وأرْحَبَ جَوْفَهُ ، وأعْطاهُ مِنَ الدّنْيا مِقْضَما ، فَكانَ للنّاسِ ظَلُوما ، فَذلكَ العُتُلّ الزّنِيمُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، قال : العتلّ : الصحيح الشديد .
حدثني جعفر بن محمد البزوري ، قال : حدثنا أبو زكريا ، وهو يحيى بن مصعب ، عن عمر بن نافع ، قال : سُئل عكرِمة ، عن عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ فقال : ذلك الكافر اللئيم .
حدثني علي بن الحسن الأزديّ ، قال : حدثنا يحيى ، يعني ابن يمان ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن في قوله عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٌ قال : الفاحش اللئيم الضريبة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، قال : العتلّ : الزنيم الفاحش اللئيم الضريبة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عُتُلّ قال : شديد الأشَر .
حُدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : عُتُلّ قال : العتلّ : الشديد .
بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ ومعنى «بعد » في هذا الموضع معنى مع ، وتأويل الكلام : عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ : أي مع العتلّ زنيم .
وقوله : زنيم والزنيم في كلام العرب : الملصق بالقوم وليس منهم ، ومنه قول حسان بن ثابت :
وأنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هاشِمٍ *** كمَا نِيطَ خَلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ
زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَن أبُوهُ *** بَغِيّ الأُمّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمٍ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس زَنِيمٍ قال : والزنيم : الدعيّ ، ويقال : الزنيم : رجل كانت به زنمة يُعرف بها ، ويقال : هو الأخنس بن شَرِيق الثّقَفِيّ حليف بني زُهْرة . وزعم ناس من بني زُهرة أن الزنيم هو : الأسود بن عبد يغوث الزّهريّ ، وليس به .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : أخبرنا ابن إدريس ، قال : حدثنا هشام ، عن عكرِمة ، قال : هو الدعيّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سليمان بن بلال ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المسيب ، أنه سمعه يقول في هذه الآية : { عُتُل بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ } قال سعيد : هو الملصق بالقوم ليس منهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن الحسن ، عن سعيد بن جبير ، قال : الزنيم الذي يعرف بالشرّ ، كما تعرف الشاة بزنمتها الملصق .
وقال آخرون : هو الذي له زَنَمة كزنمة الشاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم قال : نُعِتَ ، فلم يعرف حتى قيل زنيم . قال : وكانت له زنمة في عنقة يُعرف بها .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، قال حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ } قال : نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم : { وَلا تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ } قال : فلم نعرفه حتى نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم : { بَعْدَ ذَلكَ زَنيمٍ } قال : فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أصحاب التفسير ، قالوا : هو الذي يكون له زنمة كزنمة الشاة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله الزنيم : يقول : كانت له زنمة في أصل أذنه ، يقال : هو اللئيم الملصق في النسب .
وقال آخرون : هو المريب ، ذكر من قال ذلك :
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ قال : زنيم : المُرِيب الذي يعرف بالشرّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قال : الزنيم : الذي يعرف بالشرّ .
وقال آخرون : هو الظلوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله زَنِيمٍ قال : ظلومٍ .
وقال آخرون : هو الذي يُعرف بأُبنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم : الذي يُعرف بأُبنة ، قال أبو إسحاق : وسمعت الناس في إمرة زياد يقولون : العتلّ : الدعيّ .
وقال آخرون : هو الجِلْف الجافي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، قال : سمعت شهر بن حَوْشب يقول : هو الجلف الجافي الأكول الشروب من الحرام .
وقال آخرون : هو علامة الكفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، قال : الزنيم : علامة الكفر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، قال : الزنيم : علامة الكافر .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أنه كان يقول الزنيم يُعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة .
وقال آخرون : هو الذي يعرف باللؤم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرِمة ، قال : الزّنيم : الذي يعرف باللؤم ، كما تُعرف الشاة بزنمتها .
وقال آخرون : هو الفاجر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزين ، في قوله : { عُتُلّ بَعْدَ ذلكَ زَنيمٍ } قال : الزنيم : الفاجر .
والعتل : القوي البنية الغليظ الأعضاء المصحح القاسي القلب ، البعيد الفهم ، الأكول الشروب ، الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار ، فكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص ، فعن هذه التي ذكرت بصدر ، وقد ذكر النقاش ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : فسر العتل بنحو هذا{[11240]} ، وهذه الصفات كثيرة التلازم ، والعتل : الدفع بشدة ، ومنه العتلة ، وقوله : { بعد ذلك } معناه ، بعدما وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف ، لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاً ، هو قبل كونه صاحب خير يمنعه ، والزنيم : في كلام العرب ، الملصق في القوم وليس منهم ، وقد فسر به ابن عباس هذه الآية ، وقال مرة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة ، يعني الذي نزلت فيه هذه الآية ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت : [ الطويل ]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم . . . كما نيط خلف الراكب القدح الفرد{[11241]}
ومنه قول حسان بن ثابت أيضاً : [ الطويل ]
زنيم تداعاه الرجال زيادة . . . كما زيد في عرض الأديم الأكارع{[11242]}
فقال كثير من المفسرين : هذا هو المراد في الآية . وذلك أن الأخنس بن شريق كان من ثقيف ، حليفاً لقريش . وقال ابن عباس : أراد ب «الزنيم » أن له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وهي الهنة التي تعلق في عنقها ، وما كنا نعرف المشار إليه ، حتى نزلت فعرفناه بزنمته . قال أبو عبيدة : يقال للتيس زنيم إذ له زنمتان ، ومنه قول الأعرابي في صفة شاته : كأن زنمتيها تتوا قليسية{[11243]} . وروي أن الأخنس بن شريق كان بهذه الصفة ، كان له زنمة . وروى ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الصفة ، لم يعرف صاحبها حتى نزلت { زنيم } فعرف بزنمته . وقال بعض المفسرين : الزنيم : المريب ، القبيح الأفعال .
والعُتُل : بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفةٍ لأنه مشتق من العَتْل بفتح فسكون ، وهو الدفع بقوة قال تعالى : { خذوه فاعْتلُوه إلى سواء الجحيم } [ الدخان : 47 ] ولم يسمع ( عاتل ) . ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالين مختلفين .
وفسر العُتل بالشديد الخِلقة الرحيب الجوف ، وبالأكول الشروب ، وبالغشوم الظلوم ، وبالكثير اللّحم المختال ، روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غَنْم ، يزيدُ بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي ، وهو على هذا التفسير إتْباع لصفة { منّاع للخير } [ القلم : 12 ] أي يمنع السائل ويدفعه ويُغلظ له على نحو قوله تعالى : { فذلك الذي يَدعُّ اليتيم } [ الماعون : 2 ] .
ومعنى { بعد ذلك } علاوة على ما عُدّد له من الأوصاف هو سيّىء الخِلقة سيِّىء المعاملة ، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور ، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] على أحد الوجهين فيه .
وعلى تفسير العُتل بالشديد الخِلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه .
وموقع { بعد ذلك } موقعَ الجملة المعترضة ، والظرفُ خبر لمحذوف تقديره : هو بعد ذلك .
ويجوز اتصال { بعد ذلك } بقوله : { زنيم } على أنه حال من { زنيم } .
والزنيم : اللصيق وهو من يكون دعياً في قومه ليس من صريح نسبهم : إِما بمغمز في نسبه ، وإِما بكونه حليفاً في قوم أو مولى ، مأخوذ من الزَنَمة بالتحريك وهي قطعة من أذن البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير . والزنمتان بضعتان في رقاب المعز .
قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده . وقيل أريد الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشاً وحلّ بينهم ، وأيَّا ما كان المراد به فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه { كل } [ القلم : 10 ] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال : ما بال أقوام يعملون كذا ، ويُراد واحد معين . قال الخطيم التميمي جاهلي ، أو حسان بن ثابت :
زنيم تداعاه الرجال زيادةً *** كما زيد في عَرض الأديم الأكارع
ويطلق الزنيم على من في نسبه غضاضة من قِبَل الأمهات ، ومن ذلك قول حَسان في هجاء أبي سفيان بن حَرب ، قبل إسلام أبي سفيان ، وكانت أمه مولاةً خلافاً لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن :
وأنتَ زنيم نيطَ في آل هاشم *** كما نِيطَ خلْفَ الراكب القَدَحُ الفَرْدُ
وإنَّ سَنام المجد من آل هاشم *** بنُو بنت مخزوم ووالدُكَ العَبْد
يريد جدّه أبا أمه وهو مَوهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سُمية بنت موهب هذا .
والقول في هذا الإِطلاق والمرادِ به مماثل للقول في الإِطلاق الذي قبله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{عتل بعد ذلك} يقول: مع ذلك النعت {زنيم}، يعني بالعتل رحيب الجوف موثق الحلق، أكول شروب غشوم ظلوم،
ومعنى {زنيم} أنه كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة، مثل الزنمة التي تكون معلقة في لحى الشاة زيادة في خلقه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والعتلّ: الجافي الشديد في كفره... فاحش الخلق،... وكلّ شديد قويّ فالعرب تسمية عُتُلاّ.
والزنيم في كلام العرب: الملصق بالقوم وليس منهم.
عن سعيد بن جبير، قال: الزنيم الذي يعرف بالشرّ، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال آخرون: هو الذي له زَنَمة كزنمة الشاة.
وقال آخرون: كان دعيّا... هو اللئيم الملصق في النسب.
وقال آخرون: هو المريب الذي يعرف بالشرّ.
وقال آخرون: هو الذي يُعرف بأُبنة.
وقال آخرون: هو الجِلْف الجافي.
وقال آخرون: هو الذي يعرف باللؤم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{عُتُلٍّ بَعْد ذلك زنيمٍ} وفيه تسعة أوجه:
الرابع: أنه الجافي الشديد الخصومة بالباطل، قاله الكلبي.
السادس: أنه الباغي، قاله ابن عباس.
السابع: أنه الذي يعتِل الناس، أي يجرهم إلى الحبس أو العذاب، مأخوذ من العتل وهو الجر، ومنه قوله تعالى: {خذوه فاعتِلوه} [الحاقة:30].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عُتُلٍّ} غليظ جاف، من عتله: إذا قاده بعنف وغلظة. {بعد ذلك زَنِيمٌ} جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه، قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها.
الصفة الثامنة: العتل؛ وأقوال المفسرين فيه كثيرة، وهي محصورة في أمرين (أحدهما) أنه ذم في الخَلْق (والثاني) أنه ذم في الخُلُق، وهو مأخوذ من قولك: عتله إذا قاده بعنف وغلظة، ومنه قوله تعالى: {فاعتلوه}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كل من يتصف بهذه الدنايا التي من شأنها إبعاد الناس عنه و نفرتهم منه يسعى في سترها إن كان عاقلاً بلين وتواضع وخداع وسهولة انقياد، بين أن هذا على غير ذلك، فقال منبهاً على هذا بالبعدية: {عتل} أي أكول شديد الخصومة جاف غليظ في خلقه وخلقه ثقيل مر، كأنه قطعة جبل قد انقطع عن سائره لا ينجر إلى خير إلا بعسر وصعوبة وعنف، من عتله -إذا قاده بغلظة، فهو في غاية ما يكون من يبس الطباع، وعدم الطواعية في الخير والانطباع،... ونبه سبحانه على ثباته في تلك المخازي، الموجب لاستغراق أوقاته وأحواله بها بنزع الخافض فقال: {بعد ذلك} الخلق الجدير بتكلف الإبعاد عنه، الذي تجمع من هذه الأوصاف التي بلغت نهاية القباحة، حتى صارت كأنها خلق واحد ثابت راسخ، لا حيلة له في مداواته، وعلى ذلك نبه قوله: {زنيم} أي صارت له علامة سوء وشر وثناء قبيح، ولأمة بينة و معرفة يعرف بها كما تعرف الشاة بزنمتها. وهي الجلدة التي تكون تحت حلقها مدلاة تنوس، والعبد بمعايبه وسفساف أخلاقه، وقيل: هو الذي يتشبه بقوم وليس منهم في شيء، ولا يخلو التعبير به من إشارة إلى أنه دعي ليس ثابت النسب إلى من ينتسب إليه، ليكون منقطعاً عن كل خير وإن كان ينسب إلى آباء كرام، آخذاً من زنمة البعير، وهي جلدة تقطع من أذنه فتترك معلقة، ولا يفعل ذلك إلا بكرام الإبل، وهذه الأفعال كلها تنافي الشجاعة المقتضية لإحسان صاحبها إلى كل أحد، وأن لا يحسب له حساباً ولا يوصل إليه أذى إلا بعد ظهور شره، فيعامله حينئذ بحسب العدل بما لا يرزىء بالمروءة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو بعد هذا كله (عتل).. وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات... ولكن تبقى كلمة (عتل) بذاتها أدل على كل هذا، وأبلغ تصويرا للشخصية الكريهة من جميع الوجوه.
وهو زنيم.. وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام -وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم- والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم، أو أن نسبه فيهم ظنين. ومن معانيه، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره. والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة. وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهينا في القوم، وهو المختال الفخور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {بعد ذلك} علاوة على ما عُدّد له من الأوصاف هو سيّىء الخِلقة سيِّئ المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور، فمفادها مفاد التراخي الرتبي
وعلى تفسير العُتل بالشديد الخِلقة والرحيب الجوف، يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه هي الصفات التي كانت تتمثل في أولئك الذين كانوا يعيشون في مجتمع الدعوة الأول ممن قد تكون لهم وجاهةٌ اجتماعيةٌ، ومنزلةٌ اقتصاديةٌ، تؤهلهم أن يقدّموا طروحاتهم المشبوهة للنبيّ، ليبطلوا موقعه الروحيّ الثابت على الحق بصلابةٍ.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم). «عتل» كما يقول الراغب في المفردات: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كلّ شيء، ويمنع الآخرين منه...
وخلاصة البحث أنّ الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذّبين، وبيّن صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه، وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وانحطاطا وخسّة، فهم يتتبعون عيوب الآخرين، نمّامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب، وفي الحقيقة أنّنا لا نتوقّع أن يقف بوجه النور الرسالي إلاّ أمثال هؤلاء الأشرار.