{ 40 - 41 } { وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تعجل عليهم بإصابة ما يوعدون به من العذاب ، فهم إن استمروا على طغيانهم وكفرهم فلا بد أن يصيبهم ما وعدوا به ، { إمَا نُرِيَنَّكَ } إياه في الدنيا فتقر بذلك عينك ، { أو نتوفينك } قبل إصابتهم فليس ذلك شغلا لك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } والتبيين للخلق .
{ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } فنحاسب الخلق على ما قاموا به ، مما عليهم ، وضيعوه ، ونثيبهم أو نعاقبهم .
وقوله - سبحانه - { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } حض له صلى الله عليه وسلم على المضى في دعوته بدون تسويف أو تأجيل .
و " ما " في قوله " وإما نرنيك " مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، والأصل : وإن نرك ، والإِراءة هنا بصرية ، والكاف مفعول أول ، وبعض الذي نعدهم : مفعول ثان ، وجواب الشرط ، محذوف .
والمعنى : وإما نرينك - يا محمد - بعض الذي توعدنا به أعداءك من العذاب الدنيوى ، فذاك شفاء لصدرك وصدور أتباعك .
وقوله " أو نتوفينك " شرط آخر لعطفه على الشرط السابق ، وجوابه - أيضا - محذوف والتقدير : أو نتوفينك قبل ذلك فلا تهتم ، واترك الأمر لنا .
وقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } تعليل لهذا الجواب المحذوف ، أى : سواء أرأيت عذابهم أم لم تره ، فإنما عليك فقط تبليغ ما أمرناك بتبليغه للناس .
{ وعلينا } وحدنا { الحساب } أى : محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم السيئة .
وقوله - سبحانه - : { بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } للإِشارة إلى أن ما يصيبهم من عذاب دنيوى هو بعض العذاب المعد لهم ، أما البعض الآخر وهو عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى .
ولقد صدق الله - تعالى - وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم فأراه قبل أن يفارق هذه الدنيا ، جانبا من العذاب الذي أنزله بأعدائه ، فسلط على مشركى مكة الجدب والقحط الذي جعلهم يأكلون العظام والميتة والجلود .
كما سلط عليهم المؤمنين فهزموهم في غزوة بدر وفى غزوة الفتح وفى غيرهما .
وسواء أخذهم الله في حياة الرسول [ ص ] بشيء مما أوعدهم ، أو توفاه إليه قبل ذلك ، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئا ، ولا يبدل من طبيعة الرسالة وطبيعة الألوهية :
( وإن ما نرينك بعض الذي تعدهم أو نتوفينك ، فإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب ) .
وفي هذا التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة . . إن الدعاة إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها ؛ وليس عليهم أن يبلغوا بها إلا ما يشاؤه الله . كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة ، ولا أن يشعروا بالفشل والخيبة ، إذا رأوا قدر الله يبطيء بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض ، إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن مّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم ، أو نتوفيّنك قبل أن نريك ذلك ، فإنما عليك أن تنتهي إلى طاعة ربك فيما أمرك به من تبليغهم رسالته ، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم ، وعلينا محاسبتهم فمجازاتهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ .
{ إن } شرط دخلت عليها { ما } مؤكدة ، وهي قبل الفعل فصارت في ذلك بمنزلة اللام المؤكدة في القسم التي تكون قبل الفعل في قولك : والله لنخرجن ، فلذلك يحسن أن تدخل النون الثقيلة في قولك : { نرينك } لحلولها هنا محل اللام هنالك ، ولو لم تدخل { ما } لما جاز ذلك إلا في الشعر ، وخص «البعض » بالذكر إذ مفهوم أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار مما توعد به الكفار . وكذلك أعطي الوجود ، ألا ترى أن أكثر الفتوح إنما كان بعد النبي عليه السلام و { أو } عاطفة . وقوله : { فإنما } جواب الشرط{[6984]} .
ومعنى الآية : إن نبقك يا محمد لترى أو نتوفينك ، فعلى كلا الوجهين إنما يلزمك البلاغ فقط .
وقوله : { نعدهم } محتمل أن يريد به المضار التي توعد بها الكفار ، فأطلق فيها لفظة الوعد لما كانت تلك المضار معلومة مصرحاً بها ، ويحتمل أن يريد الوعد لمحمد في إهلاك الكفرة ، ثم أضاف الوعد إليهم لما كان في شأنهم .
عطف على جملة { يمحوا الله ما يشاء ويثبت } [ الرعد : 39 ] باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات ، فبينت هذه الجملة أن النبي ليس مأموراً بالاشتغال بذلك ولا بترقبه وإنما هو مبلّغ عن الله لعباده والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي ذلك أم لم يشهده .
وجعل التوفي كناية عن عدم رؤية حلول الوعيد بقرينة مقابلته بقوله : نرينك } . والمعنى : ما عليك إلا البلاغ سواء رأيت عذابهم أم لم تره .
وفي الإتيان بكلمة { بعض } إيماء إلى أنه يرى البعض . وفي هذا إنذار لهم بأن الوعيد نازل بهم ولو تأخر ؛ وأن هذا الدين يستمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إذا كان الوعيد الذي أمر بإبلاغه واقعاً ولو بعد وفاته فبالأولى أن يكون شرعه الذي لأجله جاء وعيد الكافرين به شرعاً مستمراً بعده ، ضرورة أن الوسيلة لا تكون من الأهمية بأشدّ من المقصد المقصودة لأجله .
وتأكيد الشرط بنون التوكيد و { مَا } المزيدة بعد { إنْ } الشرطية مراد منه تأكيد الربط بين هذا الشرط وجوابه وهو { إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } . على أن نون التوكيد لا يقترن بها فعل الشرط إلاّ إذا زيدت { ما } ؛ بعد { إن } الشرطية فتكون إرادة التأكيد مقتضية لاجتلاب مؤكدين ، فلا يكون ذلك إلا لغرض تأكيد قويّ .
وقد أرى الله نبيئه بعض ما توعد به المشركين من الهلاك بالسيف يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وغيرها من أيام الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُرِهِ بعضه مثل عذاب أهل الردة فإن معظمهم كان من المكذبين المبطنين الكفر مثل : مسيلمة الكذاب .
وفي الآية إيماء إلى أن العذاب الذي يحل بالمكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم عذاب قاصر على المكذبين لا يصيب غير المكذب لأنه استئصال بالسيف قابل للتجزئة واختلاف الأزمان رحمةً من الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
و { على } في قوله : { عليك البلاغ وعلينا الحساب } مستعملة في الإيجاب والإلزام ، وهو في الأول حقيقة وفي الثاني مجاز في الوجوب لله بالتزامه به .
و { إنما } للحصر ، والمحصور فيه هو البلاغ لأنه المتأخر في الذكر من الجملة المدخولة لِحرف الحصر ، والتقدير : عليك البلاغ لا غيره من إنزال الآيات أو من تعجيل العذاب ، ولهذا قدم الخبر على المبتدأ لتعيين المحصور فيه .
وجملة { وعلينا الحساب } عطف على جملة { عليك البلاغ } فهي مدخولة في المعنى لحرف الحصر . والتقدير : وإنما علينا الحساب ، أي محاسبتهم على التكذيب لا غير الحساب من إجابة مقترحاتهم .