ولما ذكر حالة المتكبرين ، ذكر حالة المتقين ، فقال : { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } أي : بنجاتهم ، وذلك لأن معهم آلة النجاة ، وهي تقوى اللّه تعالى ، التي هي العدة عند كل هول وشدة . { لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ } أي : العذاب الذي يسوؤهم { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فنفى عنهم مباشرة العذاب وخوفه ، وهذا غاية الأمان .
فلهم الأمن التام ، يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السلام ، فحينئذ يأمنون من كل سوء ومكروه ، وتجري عليهم نضرة النعيم ، ويقولون { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }
ثم بين - سبحانه - حال المؤمنين يوم القيامة ، بعد بيانه لحال الذين كذبوا على الله فقال : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
ومفازتهم : اسم مصدر . أو مصدر ميمى . من فاز فلان بكذا ، إذا ظفر به ، ونال مراده منه .
أى ؛ وينجى الله - تعالى - بفضله ورحمته ، { الذين اتقوا } الشرك والمعاصى من عذاب جهنم ، { بِمَفَازَتِهِمْ } أى : بسبب فوزهم برضا الله - تعالى - ورحمته ، جزاء إيمانهم وتقواهم ، وقرأ حمزة والكسائى { بِمَفَازَتِهِمْ } بالجمع .
ويصح أن تكون الباء فى قوله : { بِمَفَازَتِهِمْ } للملابسة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الذين اتقوا . أى ينجيهما حالة كونهم متلبسين .
وقوله : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يجوز أن يكون تفسيراً لذلك الفوز ، كأنه قيل : وما مظاهر فوزهم فكان الجواب : لا يمسهم السوء الذى يصيب غيرهم من الكافرين والعصاة ، ولا هم يحزنون على شئ تركوه خلفهم فى الدنيا .
ويجوز أن يكون حالا من الذين اتقوا . أى : ينجيهم بسبب مفازتهم ، حال كونهم لا يمسهم السوء ، أى : لا يمسهم شئ مما يكره لا فى الحال ولا فى الاستقبال ، ولا هم يحزنون على ما كان منهم فى الماضى .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد كرم المتقين تكريما عظيما ، حيث نجاهم من عذاب جهنم ، وجعلهم آمنين من كل ما يغمهم فى كل زمان أو مكان .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : هذه آية جامعة ، لأن الإِنسان إذا علم أنه لا يمسه السوء ، كان فراغ البال بحسب الحال ، وإذا علم أنه لا يحزن كان هادئ النفس عما وقع فى قلبه بسبب فوات الماضى ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات .
وقد دلت الآية على أن المؤمنين ، لا ينالهم الخوف والرعب فى القيامة ، وتأكد هذا بقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر . . }
وفريق ناج فائز لا يمسه السوء ولا يخالطه الحزن . هو فريق المتقين ، الذين عاشوا في حذر من الآخرة ، وفي طمع في رحمة الله . فهم اليوم يجدون النجاة والفوز والأمن والسلامة : لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون . .
ومن شاء بعد هذا فليلب النداء إلى الرحمة الندية الظليلة وراء الباب المفتوح . ومن شاء فليبق في إسرافه وفي شروره حتى يأخذهم العذاب وهم لا يشعرون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ اتّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسّهُمُ السّوَءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } .
يقول تعالى ذكره : وينجي الله من جهنم وعذابها ، الذين اتقوه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في الدنيا ، بمفازتهم : يعني بفوزهم ، وهي مفعلة منه . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ، وإن خالفت ألفاظ بعضهم اللفظة التي قلناها في ذلك ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : وَيُنْجّي اللّهُ الّذِينَ اتّقُوا بِمفَازَتِهِمْ قال : بفضائلهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَيُنْجّي اللّهُ الّذِينَ اتّقُوا بِمفَازَتِهِمْ قال : بأعمالهم ، قال : والاَخرون يحملون أوزارهم يوم القيامة وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بغَيرِ عِلْمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ .
واختلفت القراء في ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة ، وبعض قراء مكة والبصرة : بِمفَازَتِهِمْ على التوحيد . وقرأته عامة قراء الكوفة : «بِمفَازَاتِهِمْ » على الجماع .
والصواب عندي من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لاتفاق معنييهما والعرب توحد مثل ذلك أحيانا وتجمع بمعنى واحد ، فيقول أحدهم : سمعت صوت القوم ، وسمعت أصواتهم ، كما قال جل ثناؤه : إنّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ، ولم يقل : أصوات الحمير ، ولو جاء ذلك كذلك كان صوابا .
وقوله : لا يَمَسّهُمُ السّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يقول تعالى ذكره : لا يمس المتقين من أذى جهنم شيء ، وهو السوء الذي أخبر جل ثناؤه أنه لن يمسهم ، ولا هم يحزنون يقول : ولا هم يحزنون على ما فاتهم من آراب الدنيا ، إذ صاروا إلى كرامة الله ونعيم الجنان .
{ وينجي الله الذين اتقوا } وقرئ وينجي . { بمفازتهم } بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب ، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقا لهم بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله :{ لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } وهو حال أو استئناف لبيان المفازة .
ذكر الله تعالى المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من ذكر الكفرة ، وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين ، لأن الأشياء تتبين بأضدادها .
وقرأ جمهور القراء : «بمفازتهم » وذلك على اسم الجنس ، وهو مصدر من الفوز . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكسر عن عاصم : «بمفازاتهم » على الجمع من حيث النجاة أنواع ، الأسباب مختلفة وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن والأعمش ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره : وينجي الله الذين اتقوا بأسباب أو بدواعي مفازاتهم . قال السدي : { بمفازتهم } بفضائلهم . وقال ابن زيد بأعمالهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.