{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ }
يقول تعالى معظما لكتابه مادحا له { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : الآيات الدالة على أحسن المعاني وأفضل المطالب ، { وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } للحقائق بأحسن لفظ وأوضحه وأدله على المقصود ، وهذا مما يوجب على الخلق الانقياد إليه ، والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول والفرح والسرور .
1- سورة الحجر ، هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد ذكر الزركشي والسيوطي أنها نزلت بعد سورة يوسف( {[1]} ) . . .
2- وسميت بسورة الحجر ، لورود هذا اللفظ فيها دون أن يرد في غيرها وأصحاب الحجر هم قوم صالح –عليه السلام- ، إذ كانوا ينزلون الحجر –بكسر الحاء وسكون الجيم- وهو المكان المحجور ، أي الممنوع أن يسكنه أحد غيرهم لاختصاصهم به .
ويجوز أن يكون لفظ الحجر ، مأخوذ من الحجارة ، لأن قوم صالح –عليه السلام- كانوا ينحتون بيوتهم من أحجار الجبال وصخورها ، ويبنون بناء محكما جميلاً .
قال –تعالى- حكاية عما قاله نبيهم صالح لهم – [ وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ]( {[2]} ) ومساكنهم مازالت آثارها باقية ، وتعرف الآن بمدائن صالح ، وهي في طريق القادم من المدينة المنورة إلى بلاد الشام أو العكس ، وتقع ما بين خيبر وتبوك . . .
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة . . .
قال الشوكاني : وهي مكية بالاتفاق . وأخرج النحاس في ناسخه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحجر بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله " ( {[3]} ) .
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه السورة أنها مكية ، دون أن يذكر في ذلك خلافاً .
وقال الآلوسي : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير –رضي الله عنهم- أنها نزلت بمكة . وروى ذلك عن قتادة ومجاهد .
وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله –تعالى- [ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ] وقوله –تعالى- [ كما أنزلنا على المقتسمين . الذين جعلوا القرآن عضين ]( {[4]} ) .
والحق أن السورة كلها مكية ، وسنبين –عند تفسيرنا للآيات التي قيل بأنها مدنية –أن هذا القول ليس له دليل يعتمد عليه .
4- ( أ ) وعندما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، نراها في مطلعها تشير إلى سمو مكانة القرآن الكريم ، وإلى سوء عاقبة الكافرين الذين عموا وصموا عن دعوة الحق . .
قال –تعالى- [ الر ، تلك آيات الكتاب وقرآن مبين . ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون . وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم . ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ] .
( ب ) ثم تخبرنا بعد ذلك بأن الله –تعالى- قد تكفل بحفظ كتابه ، وصيانته من أي تحريف أو تبديل ، وبأن المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكذبونه عن عناد وجحود ، لا عن نقص في الأدلة الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .
قال –تعالى- [ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين . وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . كذلك نسلكه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين . ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ] .
( ج ) ثم نسوق السورة الكريمة بعد ذلك ألواناً من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، وعلى سابغ نعمه على عباده . . .
قال –تعالى- [ ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ] .
( د ) ثم حكت السورة قصة خلق آدم –عليه السلام- ، وتكليف الملائكة بالسجود له ، وامتثالهم جميعاً لأمر الله –سبحانه- ، وامتناع إبليس وحده عن الطاعة ، وصدور حكمه –سبحانه- بطرده من الجنة . . .
قال –تعالى- [ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون . والجان خلقناه من قبل من نار السموم . وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ] . .
( ه ) ثم قصت علينا السورة الكريمة بأسلوب فيه الترغيب والترهيب ، وفيه العظة والعبرة ، جانباً من قصة إبراهيم ، ثم من قصة لوط ، ثم من قصة شعيب ، ثم من قصة صالح –عليهم الصلاة والسلام- . . .
قال –تعالى- : [ ونبئهم عن ضيف إبراهيم . إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون . قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم . قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون . قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . قال فما خطبكم أيها المرسلون . قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين . إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ] .
( و ) ثم ختمت سورة الحجر بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، وأمرته بالصفح والعفو حتى يأتي الله بأمره ، وبشرته بأنه –سبحانه- سيكفيه شر أعدائه ، وبأنه سينصره عليهم . . .
قال –تعالى- : [ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل . إن ربك هو الخلاق العليم . ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم . لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم ، واخفض جناحك للمؤمنين ] .
ومن هذا العرض الإجمالي للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت اهتماماً واضحاً بتثبيت المؤمنين وتهديد الكافرين ، تارة عن طريق الترغيب والترهيب ، وتارة عن طريق قصص السابقين ، وتارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما اشتمل عليه من مخلوقات تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته وسابغ رحمته . . .
سورة الحجر من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجى { الر } .
وقد بينا - بشئ من التفصيل - عند تفسيرنا لسورة : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف . . . آراء العلماء في هذه الحروف التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم .
وقلنا ما خلاصته : من العلماء من يرى أن المعنى المقصود منها غير معروف لأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . . .
ومنهم من يرى أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه ، بل هي أسماء للسور التي افتتحت بها . . . أو هي حروف مقطعة بعضها من أسماء الله ، وبعضها من صفاته . . .
ثم قلنا : ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ؛ للإِشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل .
وفضلاً عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجارى كلامهم وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكماً وهدايات قد تكون سبباً في استجابتهم للحق ، كما استجاب صالحو الجن الذين حكى الله - تعالى - عنهم أنهم عندما استمعوا إلى القرآن قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً . . . . } واسم الإِشارة { تلك } يعود إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة ، أو إلى جميع الآيات القرآنية التي نزلت قبل ذلك .
والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، ولا يقدح في هذا ، ذكر لفظ القرآن بعده ، لأنه - سبحانه - جمع له بين الاسمين تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لقدره .
و { مبين } اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، مبالغة في الوضوح والظهور .
قال صاحب الصحاح : يقال : " بان الشئ يبين بيانا ، أى اتضح ، فهو بين وكذا أبان الشئ فهو مبين . . . " .
والمعنى : تلك - أيها الناس - آيات بينات من الكتاب الكامل في جنسه ، ومن القرآن العظيم الشأن ، الواضح في حكمه وأحكامه ، المبين في هدايته وإعجازه فأقبلوا عليها بالحفظ لها ، وبالعمل بتوجيهاتها ، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم .
قال الآلوسى : " وفى جمع وصفى الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه ، حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإِلهية فكأنه كلها ، وبالثانى إلى كونه ممتازاً عن غيره ، نسيجا وحده ، بديعاً في بابه ، خارجاً عن دائرة البيان ، قرآناً غير ذى عوج
سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون
هذه السورة مكية بجملتها ، نزلت بعد سورة يوسف ، في الفترة الحرجة ، ما بين " عام الحزن " وعام الهجرة . . تلك الفترة التي تحدثنا عن طبيعتها وملابساتها ومعالمها من قبل في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود وفي تقديم سورة يوسف بما فيه الكفاية . .
وهذه السورة عليها طابع هذه الفترة ، وحاجاتها ومقتضياتها الحركية . . إنها تواجه واقع تلك الفترة مواجهة حركية ؛ وتوجه الرسول [ ص ] والجماعة المسلمة معه ، توجيها واقعيا مباشرا وتجاهد المكذبين جهادا كبيرا . كما هي طبيعة هذا القرآن ووظيفته .
ولما كانت حركة الدعوة في تلك الفترة تكاد تكون قد تجمدت ، بسبب موقف قريش العنيد منها ومن النبي [ ص ] والعصبة المؤمنة معه ؛ حيث اجترأت قريش على رسول الله [ ص ] بما لم تكن تجترئ عليه في حياة أبي طالب . واشتد استهزاؤها بدعوته ؛ كما اشتد إيذاؤها لصحابته . . فقد جاء القرآن الكريم في هذه الفترة يهدد المشركين المكذبين ويتوعدهم ؛ ويعرض عليهم مصارع المكذبين الغابرين ومصائرهم ؛ ويكشف للرسول [ ص ] عن علة تكذيبهم وعنادهم ؛ وهي لا تتعلق به ولا بالحق الذي معه ، لكنها ترجع إلى العناد الذي لا تجدي معه الآيات البينات . ومن ثم يسلي الرسول [ ص ] ويواسيه ؛ ويوجهه إلى الإصرار على الحق الذي معه ؛ والصدع به بقوة في مواجهة الشرك وأهله ؛ والصبر بعد ذلك على بطء الاستجابة ووحشة العزلة ، وطول الطريق !
ومن هنا تلتقي هذه السورة في وجهتها وفي موضوعها وفي ملامحها مع بقية السور التي نزلت في تلك الفترة ؛ وتواجه مثلها مقتضيات تلك الفترة وحاجاتها الحركية . أي الحاجات والمقتضيات الناشئة من حركة الجماعة المسلمة بعقيدتها الإسلامية في مواجهة الجاهلية العربية في تلك الفترة من الزمان بكل ملابساتها الواقعية . ومن ثم تواجه حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة ، وذلك كالذي تواجهه الحركة الإسلامية الآن في هذا الزمان .
ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن . . سمة الواقعية الحركية . . لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه . .
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبتنزول النص القرآني . . لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته ؛ ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي ؛ ويواجه حالة واقعة ؛ كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده . وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها ؛ كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية ، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية .
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة ؛ ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى - صلوات الله وسلامه عليه - والعصبة المسلمة معه . . من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة ؛ التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شؤون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية . . وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تبتلى - في سبيل الله - به . .
إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ؛ ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى . . هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية . . وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن ؛ ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه . على النحو الذي أسلفنا . . وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق ، في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة !
وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة . حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الجاهلية إلى الإسلام ؛ ومن الدينونة للعباد إلى الدينونة لرب العباد ؛ كما كانت الحركة الأولى - على عهد محمد [ ص ] - تواجه جاهلية العرب بمثل هذه المحاولة ؛ قبل أن تقوم الدولة في المدينة ؛ وقبل أن يكون للإسلام سلطان على أرض وعلى أمة من الناس .
نحن اليوم في شبه هذا الموقف لا في مثله ، وذلك لاختلاف بعض الظروف والملابسات الخارجية . . نحن نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة . . ولكن مع اختلاف في الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة . . وهذا الاختلاف هو الذي يقتضي " اجتهادا " جديدا في " فقه الحركة " يوائم بين السوابق التاريخية للحركة الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا . .
هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة . . أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة ، وشرائع المجتمع المنظم المستقر ، فهذا ليس أوانه . . . إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم ، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي ! . . هذا النوع من الفقه يأتي في حينه ؛ وتفصل أحكامه على قد المجتمع المسلم حين يوجد ؛ ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك !
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ولا تستنبت بذوره في الهواء !
ونعود إلى استكمال الحديث عن موضوعات السورة :
محور هذه السورة الأول : هو إبراز طبيعة المكذبين بهذا الدين ودوافعهم الأصيلة للتكذيب ، وتصوير المصير المخوف الذي ينتظر الكافرين المكذبين . . وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات ، متنوعةالموضوع والمجال ، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل . سواء في ذلك القصة ، ومشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله وتعقب عليه .
وإذا كان جو سورة الرعد يذكر بجو سورة الأنعام . فإن جو هذه السورة - الحجر - يذكر بجو سورة الأعراف . - وابتداؤها كان بالإنذار ، وسياقها كله جاء مصداقا للإنذار - فهنا كذلك في سورة الحجر يتشابه البدء والسياق ، مع اختلاف في الطعم والمذاق !
إن الإنذار في مطلع سورة الأعراف صريح :
كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ، قليلا ما تذكرون . وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا الا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . .
ثم ترد فيها قصة آدم وابليس ويتابعها السياق حتى تنتهي الحياة الدنيا ، ويعود الجميع إلى ربهم ، فيجدوا مصداق النذير . . ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون : السماوات والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره ، والرياح والسحاب والماء والثمرات . . ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى : وكلها تصدق النذير . .
وهنا في سورة الحجر يجيء الإنذار كذلك في مطلعها ، ولكن ملفعا بظل من التهويل والغموض يزيد جوها رهبة وتوقعا للمصير :
( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون . وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم . ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون )
ثم يعرض السياق بعض مشاهد الكون : السماء وما فيها من بروج ، والأرض الممدودة والرواسي الراسخة ، والنبت الموزون ، والرياح اللواقح ، والماء والسقيا ، والحياة والموت والحشر للجميع . . يلي ذلك قصة آدم وإبليس ، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين . . ومن ثم لمحات من قصص إبراهيم ولوط وشعيب وصالح منظورا فيها إلى مصائر المكذبين ، وملحوظا فيها أن مشركي العرب يعرفون الآثار الدارسة لهذه الأقوام ، وهم يمرون عليها في طريقهم إلى الشام .
فالمحور في السورتين واحد ، ولكن شخصية كل منهما متميزة ؛ وإيقاعهما يتشابه ولا يتماثل ، على عادة القرآن الكريم في تناوله لموضوعاته الموحدة ، بطرق شتى ، تختلف وتتشابه ، ولكنها لا تتكرر أبدا ولا تتماثل !
ويمكن تقسيم سياق السورة هنا إلى خمس جولات ، أو خمسة مقاطع ، يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا :
تتضمن الجولة الأولى بيان سنة الله التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب . مبدوءة بذلك الإنذار الضمني الملفع بالتهويل :
( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ) .
ومنتهية بأن المكذبين إنما يكذبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان :
( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا : إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ! ) . . وأنهم جميعا من طراز واحد :
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين . وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . كذلك نسلكه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين . .
وتعرض الجولة الثانية بعض آيات الله في الكون : في السماء وفي الأرض وما بينهما . وقد قدرت بحكمة ، وأنزلت بقدر :
( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون . وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين . وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم . وأرسلنا الرياح لواقح ، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ) . .
وإلى الله مرجع كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم : ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون . ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين . وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ) . .
أما الجولة الثالثة فتعرض قصة البشرية وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصيلة ، ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين . وذلك في خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون والنفخ من روح الله في هذا الطين . ثم في غرور إبليس واستكباره وتوليه الغاوين دون المخلصين .
والجولة الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح ، مبدوءة بقول الله : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم ثم يتتابع القصص ، يجلو رحمة الله مع إبراهيم ولوط ، وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح . . ملحوظا في هذا القصص أنه يعرض على قريش مصارع أقوام يمرون على أرضهم في طريقهم إلى الشام ويرون آثارهم :
( إن في ذلك لآيات للمتوسمين . وإنها لبسبيل مقيم ) . .
أما الجولة الخامسة والأخيرة فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض المتلبس بالساعة وما بعدها من ثواب وعقاب ، المتصل بدعوة الرسول [ ص ] فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله ، وللبدء والمصير : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل . إن ربك هو الخلاق العليم . ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم . . )إلى آخر السورة . .
هذا المقطع الأول في سياق السورة ، يتحدث عن طبيعة الكتاب الذي يكذب به المشركون . . ويهددهم بيوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين ! كما يكشف لهم عن سبب إرجاء هذا اليوم عنهم ، فهو موقوت بأجل معلوم . . ويذكر تحدياتهم واستهزاءهم وطلبهم الملائكة ، ثم يهددهم بأن نزول الملائكة يكون معه الهلاك والتدمير ! وأخيرا يكشف عن العلة الحقيقية للتكذيب . . إنها ليست نقص الدليل ولكنه العناد الأصيل ! . .
ألف . لام . را . . تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ) . .
هذه الأحرف ونظائرها هي الكتاب وهي القرآن . هذه الأحرف التي في متناول الجميع ، هي ( تلك ) الآيات العالية الأفق البعيدة المتناول ، المعجزة التنسيق . هذه الأحرف التي لا مدلول لها في ذاتها هي القرآن الواضح الكاشف المبين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ } .
أما قوله جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه الر ، فقد تقدم بيانها فيما مضى قبل . وأما قوله : تِلْكَ آياتُ الكِتابِ فإنه يعني : هذه الاَيات ، آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل . وقُرآنٍ يقول : وآيات قرآن مُبِينٍ يقول : يُبِين من تأمله وتدبّره رشدَه وهداه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقُرآنٍ مُبِينٍ قال : تبين والله هداه ورشده وخيره .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : الر فواتح يفتتح بها كلامه . تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : التوراة والإنجيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : الكتُب التي كانت قبل القرآن .