تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } أي : شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه ، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان ، { ثُمَّ أَنَابَ } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

ثم تحدثت الآيات الكريمة بعد ذلك عن فتنة سليمان - عليه السلام - فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ . . }

وقوله : { فَتَنَّا } من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار والامتحان . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته لتعلم جودته . . قال الآلوسى : وأظهر ما قيل فى فتنة سليمان - عليه السلام - أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . تأتى كل واحدة بفارس يجاهد فى سبيل الله - تعالى - ولم يقل إن شاء الله . فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل . وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة مرفوعا ، وفيه : " فوالذى نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا " . ولكن الذى فى صحيح البخارى أربعين بدل سبعين . وأن الملك قال له : قل إن شاء الله ، فلم يقل - أى فلم يقل ذلك على سبيل النسيان .

والمراد بالجسد ذلك الشق الذى ولدته له . ومعنى إلقائه على كرسيه : وضع القابلة له عليه ليراه .

وقد ذكروا أن سليمان : إنما قال : " تحمل كل امرأة فارسا يجاهد فى سبيل الله " على سبيل التمنى للخير ، وطلب الذرية الصالحة المجاهدة فى سبيل الله .

ومعى " فلم يقل " أى : بلسانه على سبيل النسيان ، والنسيان معفو عنه ، إلا أن سليمان - عليه السلام - لسمو منزلته اعتبر لك ذنبا يستحق الاستغفار منه ، فقال بعد ذلك " اغفر لى . . . "

وقوله : " لأطوفن الليلة . . . " كناية عن الجماع ، قالوا : ولعل المقصود . طوافه عليهن ابتداء من تلك الليلة ، ولا مانع من أن يستغرق طوافه بهن عدة ليال .

وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن فتنة سليمان ، هى تركه تعليق ما طلبه على مشيئة الله ، وأن عقابه على ذلك كان عدم تحقق ما طلبه .

وهذا الرأى فى تقديرنا هو الرأى الصواب فى تفسير الآية الكريمة لأنه مستند إلى حديث صحيح ثابت فى الصحيحين وفى غيرهما ، ولأنه يتناسب مع عصمة الأنبياء وسمو منزلتهم ، فإن النسيان الذى لا يترتب عليه ترك شئ من التكاليف التى كلفهم الله - تعالى - بها جائز عليهم .

وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً . إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أن الوحى مكث فترة لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نسى أن يقول - عندما سأله المشركون عن بعض الأشياء إن شاء الله ، وقال سأجيبكم على ما سألتمونى عنه غدا .

ومن العلماء من آثر عدم تعيين الفتنة التى اختبر الله - تعالى - بها سيدنا سليمان - عليه السلام - ، بتركه المشيئة ، فقال بعد أن ذكر الحديث السابق : وجائز أن تكون هذه الفتنة التى تشير إليها الآيات هنا وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال .

ثم قال : وكل ما نخرج به هو أنه كان عناك ابتلاء من الله وفتنة لنبى الله سليمان - عليه السلام - فى شأن يتعلق بتصرفاته فى الملك والسلطان ، كما يبتلى الله أنباءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهام عن الزلل ، وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع . وطلب المغفرة ، واتجه إلى الله بالرجاء والدعاء . .

ونرى أنه رأى لا بأس به ، وإن كنا نؤثر عليه الرأى السابق لاستناده فى استنباط المراد من الفتنة هنا إلى الحديث الصحيح .

هذا . وهناك أقوال أخرى ذكروها فى المقصود بفتنة سليمان وبالجسد الذى ألقاه الله على كرسى سليمان ، وهى أقوال ساقطة ، تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليه السلام - .

ومن هذه الأقوال قول بعضهم : إن الجسد الذى ألقى على كرسى سليمان ، عبارة عن شيطان تمثل له فى صورة إنسان ، ثم أخذ من سليمان خاتمه الذى كان يصرف به ملكه .

وقعد ذلك الشيطان على كرسى سليمان ، ولم يعد لسليمان ملكه إلا بعد أن عثر على خاتمه .

وقول بعضهم : إن سبب فتنة سليمان - عليه السلام - هو سجود إحدى زوجاته لتمثال أبيها الذى قتله سليمان فى إحدى الحروب ، وقد بقيت على هذه الحال هى وجواريها أربعين ليلة ، دون أن تعلم سليمان بذلك .

وقول بعضهم : إن سبب فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ولد فخاف عليه من الشياطين ، فأمر السحاب بحفظه وتغذيته . ولكن هذا الولد وقع ميتا على كرسى سليمان ، فاستغفر سليمان ربه لأنه لم يعتمد عليه فى حفظ ابنه . إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة الباطلة ، التى تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وتتنافى - أيضا - مع كل عقل سليم ، ولا مستند لها إلا النقل عن الإِسرائيليات وعن القصاص الذين يأتون بقصص ما أنزل الله بها من سلطان .

قال أبو حيان - رحمه الله - : نقل المفسرون فى هذه الفتنة وفى إلقاء الجسد أقوال يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها فى كتبهم ، وهى مما لا يحل نقلها ، وهى إم من أوضاع اليهود ، أو الزنادقة ، ولم يبين الله - تعالى - الفتنة ما هى ، ولا الجسد الذى ألقاه على كرسى سليمان .

وأقرب ما قيل فيه ، أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن فى الحديث الذى قال فيه : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . . والجسد الملقى هو المولود شق رجل . .

وقوله - سبحانه - : { قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي . . . } بيان لما قاله سليمان - عليه السلام - بعد الابتلاء والاختبار من الله - تعالى - له .

أى : قال سليمان - عليه السلام - يا رب اغفر لى لى ما فرط منى من ذنوب وزلات . . { وَهَبْ لِي مُلْكاً } عظيما { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } أى : لا يحصل مثله لأحد من الناس من بعدى { إِنَّكَ أَنتَ } يا إلهى { الوهاب } أى : الكثير العطاء لمن تريد عطاءه .

وقدم سليمان - عليه السلام - طلب المغفرة على طلب الملك ، للإِشارة إلى أنها هى الأهم عنده .

قال الإِمام الرازى - رحمه الله - : دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم بعدها طلب المملكة ، وأيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله - تعالى - سبب لانفتاح أبواب الخيرات فى الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة .

ولايقال كيف طلب سليمان - عليه السلام - الدنيا والملك مع حقارتهما إلى جانب الآخرة وما فيها من نعيم دائم ؛ لأن سليمان - عليه السلام - ما طلب ذلك إلا من أجل خدمة دينه وإعلاء كلمة الله فى الأرض ، والتمكن من أداء الحقوق لأصحابها ، ونشر العدالة بين الناس ، وإنصاف المظلوم ، وإعانة المحتاج .

وتنفيذ شرع الله - تعالى - على الوجه الأكمل .

فهو - عليه السلام - لم يطلب الملك للظلم أو البغى . . وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله - تعالى - فى الأرض .

ولقد وضح الإِمام القرطبى هذا المعنى فقال : كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله - تعالى - . . . ؟ فالجواب : أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله - تعالى - وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده ، والمحافظة على رسومه وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته . . . وحوشى سليمان - عليه السلام - أن يكون سؤالا طلبا لنفس الدنيا . لأنه هو والأنبياء ، أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله . كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله ، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك .

ومعنى قوله { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } أى : أن يسأله . فكأنه سأل منه السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإِجابة . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

17

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة . وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان . . كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما . فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها . ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه . ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح . صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة . هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً . ونصه : قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون . . وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق . ولكن هذا مجرد احتمال . . أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلاً له بالعشي . ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب . فقال ردوها عليّ . فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه . ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله . . وكلتا الروايتين لا دليل عليها . ويصعب الجزم بشيء عنها .

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن .

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل . وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ } :

يقول تعالى ذكره : ( ولقد ابتَلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ) : شيطانا متمثلاً بإنسان ، ذكروا أن اسمه صخر . وقيل : إن اسمه آصَف . وقيل : إن اسمه آصر . وقيل : إن اسمه حبقيق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : هو صخر الجنّيّ تمثّل على كرسيه جسدا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ثُمّ أنابَ ) قال : الجسد : الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه ، فقذفه في البحر ، وكان مُلك سليمان في خاتمه ، وكان اسم الجنيّ صخرا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن : ( وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : شيطانا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير : ( وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : شيطانا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وألقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : شيطانا يقال له آصر .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدَا )قال : شيطانا يقال له آصف ، فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان وذهب مُلكه ، وقعد آصف على كرسيه ، ومنعه الله نساء سليمان ، فلم يقربهنّ ، وأنكرنه قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني أطعموني أنا سليمان ، فيكذّبونه ، حتى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع إليه مُلكه ، وفرّ آصف فدخل البحر فارّا .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فيقول : لو تعرفوني أطعمتموني .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ثُمّ أنابَ ) قال : حدثنا قتادة أن سلمان أمر ببناء بيت المقدس ، فقيل له : ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد ، قال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه ، فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد ، قال : فطلبه ، وكانت عين في البحر يردها في كلّ سبعة أيام مرّة ، فنزح ماؤها وجعل فيها خمر ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً ، قال : ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ، ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً قال : ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه ، فذلّ ، قال : فكان مُلكه في خاتمه ، فأتى به سليمان ، فقال : إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت . وقيل لنا : لا يسمعنّ فيه صوت حديد ، قال : فأتى ببيض الهدهد ، فجعل عليه زجاجة ، فجاء الهدهد ، فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه ، فذهب فجاء بالماس ، فوضعه عليه ، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه ، فأخذ الماس ، فجعلوا يقطعون به الحجارة ، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخلها بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام ، وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه ، قال : فدخل الحمام ، وأعطى الشيطان خاتمه ، فألقاه في البحر ، فالتقمته سمكة ، ونُزع مُلك سليمان منه ، وألقي على الشيطان شبه سليمان قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره ، وسلّط على مُلك سليمان كله غير نسائه قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فُتِن نبيّ الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطّاب في القوّة ، فقال : والله لأجربنه قال : فقال له : يا نبيّ الله ، وهو لا يرى إلا أنه نبيّ الله ، أحدنا تصيبه الجَنابة في الليلة الباردة ، فيدع الغُسْل عمدا حتى تطلع الشمس ، أترى عليه بأسا ؟ قال : لا ، قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبيّ الله خاتمه في بطن سمكة ، فأقبل فجعل لا يستقبله جنيّ ولا طير إلا سجد له ، حتى انتهى إليهم وأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال : هو الشيطان صخر .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ قال : لقد ابتلينا وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال : الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما قال : كان لسليمان مِئة امرأة ، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة ، وهي آثر نسائه عنده ، وآمنهنّ عنده ، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ، ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها فجاءته يوما من الأيام ، فقالت : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحبّ أن تَقضي له إذا جاءك ، فقال لها : نعم ، ولم يفعل ، فابتُلي وأعطاها خاتمه ، ودخل المخرج ، فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها : هاتي الخاتم ، فأعطته ، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعد ، فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا ، وخرج مكانه تائها قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما . قال : فأنكر الناس أحكامه ، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلماؤهم ، فجاؤوا حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه . قال : فبكى النساء عند ذلك ، قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوه ، فأحدقوا به ، ثم نشروا التوراة ، فقرؤوا قال : فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر ، فابتلعه حوت من حيتان البحر . قال : وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع ، وقد اشتدّ جوعه ، فاستطعمهم من صيدهم ، قال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجّه ، فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، فقالوا : بئس ما صنعت حيث ضربته ، قال : إنه زعم أنه سليمان ، قال : فأعطوه سمكتين مما قد مَذِر عندهم ، ولم يشغله ما كان به من الضرر ، حتى قام إلى شطّ البحر ، فشقّ بطونهما ، فجعل يغسل . . . ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما ، فأخذه فلبسه ، فردّ الله عليه بهاءه ومُلكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا ، فقال : ما أحمدكم على عذركم ، ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بدّ منه ، قال : فجاء حتى أتى مُلكه ، فأرسل إلى الشيطان فجيء به ، وسخّر له الريح والشياطين يومئذٍ ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك ، وهو قوله : وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنّك أنْتَ الوَهّابُ قال : وبعث إلى الشيطان ، فأُتي به ، فأمر به فجعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به ، فألقي في البحر ، فهو فيه حتى تقوم الساعة ، وكان اسمه حبقيق .

وقوله : ثُمّ أنابَ سليمان ، فرجع إلى مُلكه من بعد ما زال عنه مُلكه فذهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن المحاربي ، عن عبد الرحمن ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : ( ثُمّ أنابَ ) قال : دخل سليمان على امرأة تبيع السمك ، فاشترى منها سمكة ، فشقّ بطنها ، فوجد خاتمه ، فجعل لا يمرّ على شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له ، حتى أتى مُلكه وأهله ، فذلك قوله ثُمّ أنابَ يقول : ثم رجع .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قا : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ أنابَ وأقبل ، يعني سليمان .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولقد ابتَلينا سليمان "وألقينا على كرسيه جسدا": شيطانا متمثلاً بإنسان...

وقوله: "ثُمّ أنابَ "سليمان، فرجع إلى مُلكه من بعد ما زال عنه مُلكه فذهب.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ولقد فتنا سليمان} على وجهين:

أحدهما: أنه امتحن بأمر فكان منه في ذلك زلة وغفلة فعوتب بما ذكر، وعوقب بنزع ملكه.

والثاني: أنه فتنه وامتحنه بنزع ملكه منه لا بزلة منه ولا عثرة، وصرفه إلى غيره لا بسبب كان منه وزلة وجعله لغيره، ثم إن كان ينزع الملك منه بأدنى سبب كان منه وزلة، فعوتب؛ فلأن الأنبياء صلوات الله عليهم، كانوا مخصوصين بالعتاب والتعبير بأدنى شيء يكون منهم مما يعد ذلك الذي كان منهم من أفضل الأعمال، ثم كان منهم من التوبة التضرع إلى الله عز وجل بالذي كان منهم؛ لما عرفوا لأنفسهم الخصوصية لهم من الكرامات والفضائل التي خصوا بها، فرأوا على أنفسهم بما أكرموا من أنواع الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها من التوبة لله وفضل التضرع والابتهال إلى الله؛ لما رأوا ما ارتكبوا كفرانا له في ما أنعم عليهم وأحسن إليهم فضل تضرع وابتهال ما لا يلزم ذلك غيرهم في مثل ما كان منهم.

{وألقينا على كرسيه جسدا} يحتمل أن يكون كرسيه ملكه، فيكون ما ذكر كناية عن نزع ملكه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان وكانت الأوبة عظيمة جداً، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب:

{ولقد فتنا} أي بما لنا من العظمة {سليمان} أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة، الله أعلم بحقيقتها، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة، فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً {وألقينا} بما لنا من العظمة.

{على كرسيه} الذي كانت تهابه أسود الفيل.

ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه، له صورة بلا معنى، قال: {جسداً} فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك، بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً عن أن يغلب عليه، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا، نفعل ما نشاء بمن نشاء، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك، ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك، من نفوذ الأمر وضخامة العز وإحلال الساحة الحرام بقدر الحاجة، وسعة الملك وبقاء الذكر، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار.

ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له لا أنه لا روح فيه، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 31]

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة. وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان.. كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها. ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي، فأصوره هنا وأحكيه. ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح. صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً. ونصه: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون.. وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال.. أما قصة الخيل فقيل: إن سليمان -عليه السلام- استعرض خيلاً له بالعشي. ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب. فقال ردوها عليّ. فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله.. وكلتا الروايتين لا دليل عليها. ويصعب الجزم بشيء عنها.

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن.

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان -عليه السلام- في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل. وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع، وطلب المغفرة؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء:

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

كذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة، فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة.

الفَتن والفتون والفتنة: اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

هذه الآيات تتحدّث عن أحداث أخرى من قصّة سليمان، وتبيّن أنّ الإنسان مهما امتلك من قوّة وقدرة فإنّها ليست منه، بل إنّ كلّ ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى، هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان، ويجعله يشعر بصغر حجمه قياساً إلى هذا الكون...