تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ} (24)

فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما { فَسَقَى لَهُمَا } غير طالب منهما الأجرة ، ولا له قصد غير وجه اللّه تعالى ، فلما سقى لهما ، وكان ذلك وقت شدة حر ، وسط النهار ، بدليل قوله : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } مستريحا لذلك الظلال بعد التعب .

{ فَقَالَ } في تلك الحالة ، مسترزقا ربه { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي . وهذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال ، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا . وأما المرأتان ، فذهبتا إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما جرى .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ} (24)

وبعد أن سمع موسى منهما هذه الإجابة ، سارع إلى معاونتهما - شأن أصحاب النفوس الكبيرة ، والفطرة السليمة ، وقد عبر القرآن عن هذه المسارعة بقوله : { فسقى لَهُمَا } .

أى : فسقى لهما مواشيهما سريعا . من أجل أن يريحهما ويكفيهما عناء الانتظار وفى هذا التعبير إشارة إلى قوته ، حيث إنه استطاع وهو فرد غريب بين أمة من الناس يسقون - أن يزاحم تلك الكثرة من الناس ، وأن يسقى للمرأتين الضغيفتين غنمهما . دون أن يصرفه شىء عن ذلك .

رحم الله صاحب الكشاف . فقد أجاد عند عرضه لهذه المعانى . فقال ما ملخصه : " قوله : { فسقى لَهُمَا } أى : فسقى غنمهما لأجلهما . وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال . . فأقله وحده .

وإنما فعل ذلك رغبة فى المعروف وإغاثة للملهوف والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء ، وقد ازدحمت عليه أمة من الناس ، متكافئة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم ، مع غنمهما مترقبتين لفراغهم . فما أخطأت همته فى دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، بقوة قلبه ، وبقوة ساعده .

فإن قلت : لم ترك المفعول غير مذكور فى قوله { يَسْقُونَ } و { تَذُودَانِ } قلت : لأن الغرض هو الفعل لا المفعول . ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقى ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا .

فإن قلت : كيف طابق جوابهما سؤاله ؟ قلت : سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب فى ذلك أننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فلا بد لنا من تأخير السقى إلى أن يفرغوا ، ومالنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ كبير ، فقد أضعفه الكبر ، فلا يصلح للقيام به ، فهما قد أبدتا إليه عذرهما فى توليهما السقى بأنفهسما .

فإن قلت : كيف ساغ لنبى الله الذى هو شعيب - عليه السلام - أن يرضى لابنتيه بسقى الماشية ؟ قلت ، الأمر فى نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون فى ذلك .

والعادات متباينة فيه . . وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم . ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة . . .

وقوله - تعالى - : { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } فقال : { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } بيان لما فعله موسى وقاله بعد أن سقى للمرأتين غنمهما .

أى : فسقى موسى للمرأتين غنمهما ، ثم أعرض عنهما متجها إلى الظل الذى كان قريبا منه فى ذلك المكان ، قيل كان ظل شجرة وقيل ظل جدار .

فقال : على سبيل التضرع إلى ربه : ياربى : إنى فقير ومحتاج إلى أى خير ينزل منك على سواء أكان هذا الخير طعاما أم غيره .

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ } أى : لأي شىء تنزله من خزائن كرمك إلى { مِنْ خَيْرٍ } جل أو قل ، { فَقِيرٌ } أى : محتاج ، وهو خبر إن . وعدى باللام لتضمنه معنى الاحتياج . و ( ما ) نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها . والرابط محذوف ، و { مِنْ خَيْرٍ } بيان لها والتنوين فيه للشيوع ، والكلام تعريض لما يطعمه ، بسبب ما ناله من شدة الجوع .

يدل لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما سقى موسى للجاريتين ، ثم تولى إلى الظل . فقال : رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ، وإنه يومئذ فقير إلى كف من تمر " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ} (24)

وثارت نخوة موسى - عليه السلام - وفطرته السليمة . فتقدم لإقرار الأمر في نصابه . تقدم ليسقي للمرأتين أولا ، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة . وهو غريب في أرض لا يعرفها ، ولا سند له فيها ولا ظهير . وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد . وهو مطارد ، من خلفه اعداء لا يرحمون . ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة و النجدة والمعروف ، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس :

( فسقى لهما ) . .

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله . كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل . ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه . فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب .

( ثم تولى إلى الظل ) . .

مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر ، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر .

( فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . .

إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه ، ويأوى إلى الظل العريض الممدود . ظل الله الكريم المنان . بروحه وقلبه : ( رب . إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . رب إني في الهاجرة . رب إني فقير . رب إني وحيد . رب إني ضعيف . رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج .

ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن ، والركن الركين ، والظل والظليل . نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي ، والانعطاف الرفيق ، والاتصال العميق : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . .