{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ }
اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه ، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه ، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان ، كقوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ ْ } الآية .
وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد ، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان ، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق ، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات .
ويقتضي أيضا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله ، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من الإيمان المأمور به .
وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة ، كلها من الإيمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة ، وأجمع عليه سلف الأمة .
ثم الاستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ْ } وأمر هنا بالإيمان به وبرسوله ، وبالقرآن وبالكتب المتقدمة ، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به ، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل ، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به ، فقد اهتدى وأنجح . { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ } وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم ، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم ؟ "
واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها ، لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض ، ثم قال :
ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يثبتوا على إيمانهم فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } أى : يأيها المؤمنون اثتبوا على إيمانكم وداوما على تصديقكم بوحدانية الله - تعالى - وعلى تصديقكم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذى نزله الله - تعالى - عليه وهو القرآن ، وبالكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على الرسول الذين أرسلهم من قبله .
والمراد بالكتاب الذى أنزله على الرسل من قبله جنس الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل والزبور .
ثم بين - سبحانه - سوء مصير من يكفر بشئ مما يجب الإِيمان به فقال - تعالى - : { وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } .
أى : ومن يكفر بالله بأن الله بأن يجحد وحدانيته وألوهيته ، ولا يخلص له العبادة ، ويكفر بملائكته بأن ينكر بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويكفر بكتبه التى أنزلها - سبحانه ، على أنبيائه ، وبرسوله الذين أرسلهم لهداية الخلق . وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، من يكفر بكل ذلك فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن السبيل القويم بعداً كبيراً ، لأنه بكفره بذلك يكون قد خالف الفطرة ، وانحرف عما يقتضيه العقل السليم ، وأوغل فى الشرور والآثام إيغالا شديدا ، يؤدى به إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة .
وبعد هذه الأوامر السديدة للمؤمنين . عادت السورة الكريمة إلى تحذيرهم من أعدائهم ومن المنافقين ، فكشفت لهم عن طبيعتهم ، ونهتهم عن القعود معهم ، وبينت لهم أنماطا من خداعهم ، وألوانا من أخلاقهم الذميمة ، وأخبرتهم عن سوء مصير أولئك المنافقين فى الغى والضلال .
واستمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى كل ذلك بأسلوبها الحكيم فتقول { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . . شَاكِراً عَلِيماً } .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } : بمن قَبل محمد من الأنبياء والرسل ، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله . { آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ } يقول : صدّقوا بالله ، وبمحمد رسوله ، أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم . { والكِتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِهِ } يقول : وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه ، وذلك القرآن . { وَالكِتابِ الّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } يقول : وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزّله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل .
فإن قال قائل : وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه وقد سماهم مؤمنين ؟ قيل : إنه جلّ ثناؤه لم يسمهم مؤمنين ، وإنما وصفهم بأنهم آمنوا ، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق ، وذلك أنهم كانوا صنفين : أهل توراة مصدّقين بها وبمن جاء بها ، وهم مكذّبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما¹ وصنف أهل إنجيل وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب ، مكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان . فقال جلّ ثناؤه لهم : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } يعني : بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل ، { آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم ، { والكِتابِ الّذِين نَزّلَ على رَسُولِهِ } فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله تجدون صفته في كتبكم ، { وَبالكِتابِ الّذِين أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } الذي تزعمون أنكم به مؤمنون ، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذّبون ، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به ، فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا ، وإلا فأنتم به كافرون . فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به ، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } .
وأما قوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } فإن معناه : ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته ، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر ، لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه¹ وذلك لأنه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به ، والكفر بشيء منه كفر بجميعه ، فلذلك قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } بعقب خطابه أهل الكتاب ، وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تهديدا منه لهم ، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الاَخر سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان . وأما قوله : { فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا } فإنه يعني : فقد ذهب عن قصد السبيل ، وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا ، لأن كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده ، والخروج عن دين الله : الهلاك الذي فيه البوار ، والضلال عن الهدى هو الضلال .
اختلف الناس فيمن خوطب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } فقالت فرقة : الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى من أهل الكتابين ، أي : يا من قد آمن بنبي من الأنبياء ، آمن بمحمد عليه السلام ورجح الطبري هذا القول : وقيل : الخطاب للمؤمنين على معنى : ليكن إيمانكم هكذا على الكمال والتوفية بالله تعالى وبمحمد عليه السلام وبالقرآن وسائر الكتب المنزلة ، ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام ، وقيل : الخطاب للمنافقين ، أي : يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، ليكن إيمانكم حقيقة على هذه الصورة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ، «نُزِّل » بضم النون وكسر الزاي المشددة على ما لم يسم فاعله ، وكذلك قرؤوا «والكتاب الذي أُنزل من قبل » بضم الهمزة وكسر الزاء على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الباقون «نَزل وأنزل » بفتح النون والزاي وبفتح الهمزة في «أَنزل » على إسناد الفعلين إلى الله تعالى ، وروي عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو ، { والكتاب } المذكور أولاً هو القرآن ، والمذكور ثانياً هو اسم جنس لكل ما نزل من الكتاب ، وقوله تعالى : { ومن يكفر بالله } إلى آخر الآية وعيد وخبر ، مضمنة تحذير المؤمنين من حالة الكفر .
تذييل عُقّب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ، فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله : بأن يؤمنوا بالله ورُسُلِه وكُتبه ، ويدُوموا على إيمانهم ، ويَحذروا مَساربَ ما يخلّ بذلك .
ووصفُ المخاطبين بأنّهم آمنوا ، وإرادفُه بأمرهم بأنْ يؤمنوا بالله ورسله إلى آخره يرشد السامع إلى تأويل الكلام تأويلاً يستقيم به الجمع بين كونهم آمَنوا وكونهم مأمورين بإيماننٍ ، ويجوز في هذا التأويل خمسة مسالك :
المسلك الأول : تأويل الإيمان في قوله : { يأيّها الذين آمنوا } بأنّه إيمان مختلّ منه بعض ما يحقّ الإيمان به ، فيَكون فيها خطاب لنَفَر من اليهود آمنوا ، وهم عبد الله بن سَلام ، وأسد وأسَيْد ابنا كعب ، وثَعلبةُ بنُ قيس ، وسَلاَم ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسَلَمةُ ابن أخيه ، ويامين بن يامين ، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وبكتابه ، كما آمنوا بموسى وبالتوراة ، وأن لا يؤمنوا بالإنجيل ، كَما جاء في رواية الواحدي عن الكلبي ، ورواه غيره عن ابن عباس .
المسلك الثاني : أن يكون التأويل في الإيمان المأمور به أنّه إيمانٌ كامل لا تشوبه كراهية بعض كتب الله ، تحذيراً من ذلك . فالخطاب للمسلمين لأنّ وصف الذين آمنوا صار كاللقب للمسلمين ، ولا شكّ أنّ المؤمنين قد آمنوا بالله وما عطف على اسمه هنا ، فالظاهر أنّ المقصود بأمرهم بذلك : إمّا زيادة تقرير ما يجب الإيمان به ، وتكرير استحضارهم إيّاه حتّى لا يذهلوا عن شيء منه اهتماماً بجميعه ؛ وإمّا النهي عن إنكار الكتاب المنزّل على موسى وإنكار نبوءته ، لئلاّ يدفعهم بغض اليهود وما بينهم وبينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرّح به اليهود من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارِ نزول القرآن ؛ وإمّا أريد به التعريضُ بالذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله ورسله ثم ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وينكرون القرآن ، حسداً من عند أنفسهم ، ويكرهون بعض الملائكة لذلك ، وهم اليهود ، والتنبيهُ على أنّ المسلمين أكمل الأمم إيماناً ، وأولى الناس برسل الله وكتبه ، فهم أحرياء بأنَ يَسودوا غيرهم لسلامة إيمانهم من إنكار فضائل أهل الفضائل ، ويدلّ لذلك قوله عقبه « ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه » ، ويزيد ذلك تأييداً أنّه قال : { واليومِ الآخر } فعطفه على الأشياء التي من يكفرُ بها فقد ضلّ ، مع أنّه لم يأمر المؤمنين بالإيمان باليوم الآخر فيما أمرهم به ، لأنّ الإيمان به يشاركهم فيه اليهود فلم يذكره فيما يجب الإيمان به ، وذكَره بعد ذلك تعريضاً بالمشركين .
المسلك الثالث : أن يراد بالأمر بالإيمان الدوام عليه تثبيتاً لهم على ذلك ، وتحذيراً لهم من الارتداد ، فيكون هذا الأمر تمهيداً وتوطئة لقوله : { ومن يكفر بالله وملائكته } ، ولقوله : { إنّ الذين آمنوا ثم كفروا } [ النساء : 137 ] الآية .
المسلك الرابع : أنّ الخطاب للمنافقين ، يعني : يأيّها الذين أظهروا الإيمان أخْلِصُوا إيمانكم حقّاً .
المسلك الخامس : رُوي عن الحسن تأويل الأمر في قوله : { آمنوا بالله } بأنّه طلبٌ لثباتهم على الإيمان الذي هم عليه ، واختاره الجبائي . وهو الجاري على ألسنة أهل العلم ، وبناءً عليه جَعلوا الآية شاهداً لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام . والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل الجنس ، والتعريف للاستغراق يعني : والكتب التي أنْزَلَ الله من قبللِ القرآن ، ويؤيّده قوله بعدَه « وكُتُبِهِ ورُسُلهِ » .
وقرأ نافع . وعاصم . وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف : « نَزّل و أنْزَل » كليهما بالبناء للفاعل وقرأه ابن كثير ، وابنُ عامر ، وأبو عَمرو بالبناء للنائب .
وجاء في صلة وصف الكتاب { الذي نَزّل على رسوله } بصيغة التفعيل ، وفي صلة الكتاب { الذي أنزل من قبل } بصيغة الإفعال تفنّنا ، أو لأنّ القرآن حينئذٍ بصدد النزول نجوماً ، والتوراة يومئذٍ قد انقضى نزولها . ومن قال : لأنّ القرآن أنزل منجّماً بخلاف غيره من الكتب فقد أخطأ إذ لا يعرف كتاب نزل دَفْعَة واحدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا}، نزلت في مؤمني أهل الكتاب، كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، قالوا: نؤمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم ونكفر بما سواه، فقال تعالى: {آمنوا بالله} وصدقوا بتوحيد الله عز وجل، {ورسوله}، أي وصدقوا برسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، {والكتاب الذي نزل على رسوله}، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {والكتاب الذي أنزل من قبل} نزول كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر كفار أهل الكتاب، فحذرهم الآخرة، يعني البعث، فقال الله تعالى ذكره: {ومن يكفر بالله}: بتوحيد الله، {وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر}: البعث الذي فيه جزاء الأعمال، {فقد ضل} عن الهدى، {ضلالا بعيدا}، وبما أعد الله عز وجل من الثواب والعقاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: بمن قَبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله.
{آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ}: صدّقوا بالله، وبمحمد رسوله، أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم.
{والكِتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِهِ}: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه، وذلك القرآن.
{وَالكِتابِ الّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزّله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه وقد سماهم مؤمنين؟ قيل: إنه جلّ ثناؤه لم يسمهم مؤمنين، وإنما وصفهم بأنهم آمنوا، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق، وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذّبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما¹، وصنف أهل إنجيل وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان. فقال جلّ ثناؤه لهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل، {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم، {والكِتابِ الّذِين نَزّلَ على رَسُولِهِ} فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله تجدون صفته في كتبكم، {وَبالكِتابِ الّذِين أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذّبون، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}.
{وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ}: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر، لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه¹ وذلك لأنه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} بعقب خطابه أهل الكتاب، وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تهديدا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الاَخر سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان.
{فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا}: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا، لأن كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده، والخروج عن دين الله: الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل: {آمنوا بالله ورسوله} وجوها: يحتمل: {يا أيها الذين آمنوا} في ما مضى من الوقت
{آمنوا} في حادث الوقت. ويحتمل: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} أي اثبتوا عليه. ويحتمل: {يا أيها الذين آمنوا} بألسنتكم {آمنوا} بقلوبكم كقوله تعالى: {قالوا آمنا بأفواههم ولو تؤمن قلوبهم} (المائدة: 41).
ويحتمل: {يا أيها الذين آمنوا} عند ربهم للبأس والعذاب {آمنوا} في الحقيقة كقوله تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} (غافر: 84). ويحتمل وجها آخر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} ببعض الرسل، (آمِنُوا) بالرسل كلهم كما آمن المؤمنون؛ كقوله تعالى: {لا نفرق بين أحد منهم} (البقرة: 136) وهم كانوا يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض. ويحتمل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن يبعث {آمنوا} به حين بعث لأنهم كانوا مؤمنين به قبل أن يبعث، فلما بعث تركوا الإيمان به كقوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال: يا أيها الذين آمنوا تصديقاً آمنوا تحقيقاً بأن نجاتكم بفضله لا بإيمانكم. ويقال: يا أيها الذين آمنوا في الحال آمنوا باستدامة الإيمان إلى المآل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ} خطاب للمسلمين. {ءامِنُواْ}: اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه. {والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ} المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، والدليل عليه قوله: {وَكُتُبِهِ} [و] قرئ: «وكتابه» على إرادة الجنس.
فإن قلت: كيف قيل لأهل الكتاب {والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ} وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ قلت: كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله، ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيماناً به، لأن طريق الإيمان به هو المعجزة، ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كله، فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة، فلم يكن إيمانهم إيماناً. وهذا الذي أراد عز وجلّ في قوله: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} [النساء: 150].
فإن قلت: لم قيل (نَزَّل على رسوله) و (أنزل من قبل)؟ قلت: لأن القرآن نزل مفرّقاً منجماً في عشرين سنة، بخلاف الكتب قبله. ومعنى قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالله...}: ومن يكفر بشيء من ذلك {فَقَدْ ضَلَّ} لأن الكفر ببعضه كفر بكله. ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعاً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{والكتاب} المذكور أولاً هو القرآن، والمذكور ثانياً هو اسم جنس لكل ما نزل من الكتاب، وقوله تعالى: {ومن يكفر بالله} إلى آخر الآية وعيد وخبر، مضمنة تحذير المؤمنين من حالة الكفر...
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أنها متصلة بقوله: {كونوا قوامين بالقسط} وذلك لأن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية. وثانيهما: أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان...
{يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله}... [بمعنى] يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال... [أو] يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجملية آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية...
[و] اعلم أنه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء:
وثالثها: بالكتاب الذي نزل على رسوله،
ورابعها: بالكتاب الذي أنزل من قبل.
وخامسها: الكفر باليوم الآخر...
السؤال الأول: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب، وفي مراتب الكفر قلب القضية؟
الجواب: لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدما على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدما على الكتاب. السؤال الثاني: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب، وذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة: الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر.
والجواب: أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة، إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب، ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر، ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل، فلما كان هذا الاحتمال قائما لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
لما كان خير الإيمان علق بثلاثة: بالله، والرسول، والكتب، لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر، فنص عليهما على سبيل التوكيد، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر بالعدل على هذا الوجه أمر بالحامل على ذلك، وهو الإيمان بالشارع والمبلغ والكتاب الناهج لشرائعه المبين لسرائره الذي افتتح القصة بحقيته وبيان فائدته فقال: {يا أيها الذين ءامنوا} أي أقروا بالإيمان؛ ولما ناداهم بوصف الإيمان أمرهم بما لا يحصل إلا به فقال مفصلاً له: {ءامنوا بالله} أي لأنه أهل لذلك لذاته المستجمع لجميع صفات الكمال كلها. ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط، وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول قال: {ورسوله} أي لأنه المبلغ عنه سواء كان من الملك أو البشر {والكتاب الذي نزل} أي مفرقاً بحسب المصالح تدريجاً تثبيتاً وتفهيماً {على رسوله} أي لأنه المفصل لشريعتكم المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام والمواعظ وجميع ما يصلحكم، وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق {والكتاب الذي أنزل} أي أوجد إنزاله ومضى؛ ولما لم يكن إنزاله مستغرقاً للزمان الماضي بين المراد بقوله: {من قبل} من الإنجيل والزبور والتوراة وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله...
ولما كان التقدير: فمن آمن بذلك فقد اهتدى وآمن قطعاً بالملائكة واليوم الآخر وغير ذلك من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول، عطف عليه قوله: {ومن يكفر} أي يوجد الكفر ويجدده وقتاً من الأوقات {بالله وملائكته وكتبه} أي التي أنزلها على أنبيائه بواسطة ملائكته أو بغير واسطة {ورسله} أي من الملائكة والبشر، فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه، وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه. ولما كان الإيمان بالبعث -وإن كان أظهر شيء- مما لا تستقل به العقول فلا تصل إليه إلا بالرسل، ذكره بعدهم فقال: {واليوم الآخر} أي الذي أخبرت به رسله، وقضت به العقول الصحيحة وإن كانت لا تستقل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه، وهو روح الوجود وسره وقوامه وعماده، فيه تكشف الحقائق وتجمع الخلائق، ويظهر شمول العلم وتمام القدرة و يبسط ظل العدل وتجتني ثمرات الفضل...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
خُصَّ القرآن لفضله على غيره، فإنه يذكر الخاص بعد العام، والعام بعد الخاص لمزية في الخاص...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جمهور المفسرين على أن الخطاب فيها للمؤمنين كافة أمرهم الله أن يجمعوا بين الإيمان به وبرسوله الأعظم خاتم النبيين والقرآن الذي نزله عليه وبين الإيمان بجنس الكتب التي نزلها على رسله من قبل بعثه خاتم النبيين بأن يعلموا أن الله قد بعث قبله رسلا، وأنزل عليهم كتبا، وأنه لم يترك عباده في الزمن الماضي سدى، محرومين من البينات والهدى، ولا يقتضي ذلك أن يعرفوا أعيان تلك الكتب ولا أن تكون موجودة، ولا أن يكون الموجود منها صحيحا غير محرف، وإذا كان المتبادر من الآية هو الأمر بالجمع بين الإيمان بالنبي الخاتم والكتاب الآخر، وبين ما قبله كما قلنا فلا حاجة في جعل {آمنوا} بمعنى أثبتوا وداوموا على الإيمان بذلك كما قالوا، فليس المقام مقام الأمر بالمواظبة والمداومة، سواء أصح ما ورد في سبب النزول أم لم يصح.
ولما أمر بالإيمان بكل ما ذكر توعد على الكفر بأي شيء منه فقال: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} فالإيمان بالله هو الركن الأول والإيمان بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلغوها الناس هو الركن الرابع، والإيمان باليوم الآخر الذي يجزى فيه المكلفون على عملهم بتلك الكتب مع الإيمان بما ذكر كل بحسب كتابه إلا أن ينسخ بما بعده هو الركن الخامس، ومن فرق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى لا يعتد بإيمانه لأنه متبع للهوى فيه أو للتقليد الذي هو عين الجهل، وقد وصف الله خاتم رسله وأمته التي هي خير الأمم بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة:285].
ولولا التقليد الذي هو جهل وعمى، أو التعصب واتباع الهوى، لما كان يعقل أن يفهم أحد معنى النبوة والرسالة ويؤمن بموسى أو عيسى عن علم وبصيرة بذلك ثم يكفر بمحمد صلى الله عليه وعليهما وسلم، فإن سر الرسالة هو الهداية ولم يكن موسى ولا عيسى أهدى من محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فمن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر فقد ضل عن صراط الحق الصحيح الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم، لأنه إذا كفر ببعض تلك الأركان بجحود أصله وإنكاره البتة كانت حياته في هذه الدنيا حيوانية محضة، لا يزكي نفسه ولا يعد روحه للحياة الباقية الأبدية، وإن كفر ببعض الكتب والرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم معناها والبصيرة بحكمتها كما بينا ذلك آنفا، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طريق الهداية ومحجة السلامة، وإنما بعده عنها جهل صاحبه لوجودها، ومن جهل وجود الشيء لا يطلبه بالبحث عن بيناته، وطلب أعلامه وآياته، وأما من ضل عن الشيء وهو يؤمن بوجوده، فإنه يبحث عنه ويستدل عليه حتى يصل إليه، فيكون ضلاله قريبا. ووصف الضلال بالبعيد من أبلغ الوصف وأعلاه. وقد وحد لفظ الكتاب في أول الآية ليناسب لفظ الرسول المفرد، وجمعه في آخرها ليناسب جمع الرسل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه... وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد... ويقتضي أيضا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بيان لعناصر الإيمان التي يجب أن يؤمن بها الذين آمنوا. بيان للتصور الإسلامي الاعتقادي: فهو إيمان بالله ورسوله. يصل قلوب المؤمنين بربهم الذي خلقهم، وأرسل إليهم من يهديهم إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمان برسالة الرسول وتصديقه في كل ما ينقله لهم عن ربهم الذي أرسله. وهو إيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله. يربطهم بالمنهج الذي اختاره الله لحياتهم وبينه لهم في هذا الكتاب؛ والأخذ بكل ما فيه، بما أن مصدره واحد، وطريقه واحد؛ وليس بعضه بأحق من بعضه بالتلقي والقبول والطاعة والتنفيذ. وهو إيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل. بما أن مصدر الكتب كلها واحد هو الله... والإيمان بالكتاب كله -بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة- هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة...
وبعد الأمر بالإيمان، يجيء التهديد على الكفر بعناصر الإيمان، مع التفصيل فيها في موضع البيان قبل العقاب: (ومن يكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فقد ضل ضلالا بعيدًا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تذييل عُقّب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله، فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله: بأن يؤمنوا بالله ورُسُلِه وكُتبه، ويدُوموا على إيمانهم، ويَحذروا مَساربَ ما يخلّ بذلك...
وجاء في صلة وصف الكتاب {الذي نَزّل على رسوله} بصيغة التفعيل، وفي صلة الكتاب {الذي أنزل من قبل} بصيغة الإفعال تفنّنا، أو لأنّ القرآن حينئذٍ بصدد النزول نجوماً، والتوراة يومئذٍ قد انقضى نزولها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية تدل على وحدة الرسالة النبوية إلى الخليقة إذ إن لبها هو الإيمان بالله ورسله وملائكته والكتب التي أنزلت على رسله وأن المتأخرين يجب عليهم أن يؤمنوا بما جاء به السابقون لهم، لأن الرسالة الإلهية سلسلة متصلة الحلقات، كل حلقة منها تالية لسابقتها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن صرح النبوة واحد"، الرسالة المحمدية آخر جزء لذلك الصرح الشامخ، وبها تمامه وكماله...
" يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله "لأن الإنسان إن آمن بالله فقط، فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن بالله عن مطلوب الله ومطلوب الله إنما جاء به رسول. لذلك فالإيمان بالله يقضي أن يؤمن الإنسان برسول... إذن فالقمة الإيمانية هي أن تؤمن بالله، ولازمها أن تؤمن برسول الله وأن تؤمن بكتاب مع الرسول وأن تؤمن بما يقوله الله عن خلق لا تستطيع أن تدركهم كالملائكة وهذا الأمر بالإيمان هو مطلوب من أهل الكتاب لأنهم آمنوا برسلهم، ويطلب منهم أن يؤمنوا برسول الله وبما أنزل عليه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إِلى جمع من مؤمني أهل الكتاب الذين قبلوا الإِسلام، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإِسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإِيمان والإِقرار والاعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، لأنّ هؤلاء جميعاً يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علماً بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به، فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين).
ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإِنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأنّ العصبيات ليس بإِمكانها الوقوف أمام الحقائق، لذلك تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا آمِنوا باللّه ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل...).
وبغض النظر عن سبب النّزول المذكور، فإِنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجهاً فيها لعامّة المؤمنين، اُولئك الذين اعتنقوا الإِسلام إِلاّ أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم.
كما يوجد احتمال آخر، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إِجمالية بالله والأنبياء، إِلاّ أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإِسلامية.
ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله، لأن عدم الإِيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إِنكار حكمة الله، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟!
وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي فقط الذين يعد الإِيمان بهم جزءاً لا يتجزأ من الإِيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإِرادة عالم الكون والخليقة؛ وإِن الإِيمان بهم في الحقيقة جزء من الإِيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية في آخرها مصير الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيداً).
وفي هذه الآية اعتبر الإِيمان واجباً وضرورياً بخمسة مبادئ، فبالإِضافة إِلى ضرورة الإِيمان بالمبدأ والمعاد، فإن الإِيمان لازم وضروري بالنسبة إِلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.
إِنّ عبارة «ضلال بعيد» عبارة دقيقة، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادئ الخمسة المارة الذكر، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي، وأن عودتهم إِلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.