وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ، ويأتم بهداهم ، ولهذا ذكر الله من اللاحقين ، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من بعد المهاجرين والأنصار { يَقُولُونَ } على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } ، وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ، السابقين من الصحابة ، ومن قبلهم ومن بعدهم ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ، ويدعو بعضهم لبعض ، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين{[1039]} التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ، وأن يحب بعضهم بعضا .
ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب ، الشامل لقليل الغل وكثيره{[1040]} الذي إذا انتفى ثبت ضده ، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح ، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين .
فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان ، لأن قولهم : { سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } دليل على المشاركة في الإيمان{[1041]} وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله ، وهم أهل السنة والجماعة ، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم ، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها ، واستغفار بعضهم لبعض ، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين ، لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا ، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرا وغائبا ، حيا وميتا ، ودلت الآية الكريمة [ على ] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض ، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم ، الذي من جملته ، بل من أجله ، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده .
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة ، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام . وهؤلاء أهله الذين هم أهله ، جعلنا الله منهم ، بمنه وكرمه .
ثم مدح - سبحانه - كل من سار على نهج المهاجرين والأنصار فى قوة الإيمان ، وفى طهارة القلب ، وسماحة النفس فقال - تعالى - : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . . } عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء : قيل : الذين هاجروا حين قوة الإسلام ، فالمجىء حسى ، وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير من بعدهم ، للمهاجرين الأولين .
وقيل هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ، فالمجىء إما إلى الوجود أو إلى الايمان وضمير { مِن بَعْدِهِمْ } للفريقين : المهاجرين والأنصار .
وهذا هو الذى يدل عليه كلام عمر - رضى الله عنه - وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثانى ، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا ، أقرب إلى الصواب ، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ . . . } وعليه يكون المعنى : والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار ، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة { يَقُولُونَ } على سبيل الدعاء لأنفسهم ولإخوانهم فى العقيدة ، { رَبَّنَا اغفر لَنَا } أى : يا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر ، لإخواننا فى الدين { الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهم أسبق منا إلى الخير والفضل . . { وَلاَ تَجْعَلْ } يا ربنا { فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أى : حسدا وحقدا { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أى : يا ربنا لا تجعل فى قلوبنا أى غل أو حسد لإخواننا المؤمنين جميعا .
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى : يا ربنا إنك شديد الرأفة بعبادك واسع الرحمة بهم . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن من حق الصحابة - رضى الله عنهم - على من جاءوا بعدهم ، أن يدعوا لهم ، وأن ينزلوهم فى قلوبهم منزلة الاحترام والتبجيل والتكريم . .
ورحم الله الإمام القرطبي فقد أفاض فى بيان هذا المعنى ، فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . . . } يعنى التابعين ، ومن دخل فى الإسلام إلى يوم القيامة .
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوأوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل .
وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة . .
وقال الإمام الرازي : واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون ، أو الأنصار ، أو الذين جاءوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار ، أن يذكر السابقين ، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك ، بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين ، بحسب نص هذه الآية .
وبعد أن رسمت السورة الكريمة ، تلك الصورة الوضيئة للمهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان . . . بعد كل ذلك أخذت فى رسم صورة أخرى ، متباينة تمام المباينة مع صورة هؤلاء الصادقين ، ألا وهى صورة المنافقين ، الذين انضموا إلى كل مناوئ للدعوة الإسلامية ، فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : والذين جاءوا من بعد الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين الأوّلين يَقُولُونَ رَبّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوَانِنا الّذِينَ سَبَقُونا بالإيمَان مِنَ الأنصار . وعنى بالذين جاءوا من بعدهم المهاجرون أنهم يستغفرون لإخوانهم من الأنصار .
وقوله : { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غَلاّ للّذِينَ آمَنُوا }يعني غمرا وضغنا . وقيل : عني بالذين جاءوا من بعدهم : الذين أسلموا من بعد الذين تبوّءوا الدار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ قال : الذين أسلموا نعتوا أيضا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثم ذكر الله الطائفة الثالثة ، فقال : والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخْوَانِنا حتى بلغ إنّكَ رَحِيمٌ إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسببهم .
وذُكر لنا أن غلاما لحاطب بن أبي بلتعة جاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبيّ الله ليدخلنّ حاطب في حيّ النار ، قال : «كذبت إنه شهد بدرا والحُديبية » وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغلظ لرجل من أهل بدر ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «وَما يُدْريكَ يا عُمَرُ لَعَلّهُ قَدْ شَهِدَ مَشْهَدا اطّلَعَ اللّهُ فِيهِ إلى أهْلِهِ ، فأشْهَدَ مَلائِكَتَهُ إنُي قَدْ رَضِيتُ عَنْ عِبادي هَؤلاء ، فَلْيَعْلَمُوا ما شاءُوا » فما زال بعضُنا منقبضا من أهل بدر ، هائبا لهم ، وكان عمر رضي الله عنه يقول : وإلى أهل بدر تهالك المتهالكون ، وهذا الحيّ من الأنصار ، أحسن الله عليهم الثناء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غلاّ لِلّذِينَ آمَنُوا }قال : لا تورث قلوبنا غلاً لأحد من أهل دينك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن ابن أبي ليلى ، قال : كان الناس على ثلاث منازل : المهاجرون الأوّلون وَالّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ وَالّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوَانِنا الّذِينَ سَبَقُونا بالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاّ لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنا إنّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ، يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل الذين جاءوا من بعد الذين تبوّءوا الدار والإيمان أنهم قالوا : لا تجعل في قلوبنا غلاً لأحد من أهل الإيمان بك يا ربنا .
قوله : { إنّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } يقول : إنك ذو رأفة بخلقك ، وذو رحمة بمن تاب واستغفر من ذنوبه .
واختلف الناس في قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } فقال الفراء : أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من آمن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال جمهور العلماء : أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة ، فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول وإعراب { الذين } رفع عطفاً على { هم } أو على { الذين } أو رفع بالابتداء . وقوله تعالى : { يقولون } حال فيها الفائدة والمراد : والذين جاؤوا قائلون كذا أو يكون يقولون صفة ، ولهذه الآية قال مالك وغيره : إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض{[11028]} فلا حظ له في الغنيمة أدباً له ، وجاء عراقيون إلى علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ فقالوا : لا ، أفمن { الذين تبوءوا الدار والإيمان } ؟ قالوا : لا ، قال فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم : { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية . قوموا فعل الله بكم وفعل ، وقال الحسن أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدرياً كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ){[11029]} . فالجماعة أن لا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحداً من أهل التوحيد بذنب » . والغل : الحقد والاعتقاد الرديء ، وقرأ الأعمش : «في قلوبنا غمراً للذين » والغمر : الحقد ، وقد تقدم الاختلاف في قراءة { رؤوف } .