{ 36-37 } { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
يقول تعالى -مخوفًا للمشركين المكذبين للرسول : - { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : أمما كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشًا أي : قوة وآثارًا في الأرض .
ولهذا قال : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ } أي : بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة ، وغرسوا الأشجار ، وأجروا الأنهار ، وزرعوا ، وعمروا ، ودمروا ، فلما كذبوا رسل الله ، وجحدوا آيات الله ، أخذهم الله بالعقاب الأليم ، والعذاب الشديد ، ف { هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : لا مفر لهم من عذاب الله ، حين نزل بهم ، ولا منقذ ، فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا أموالهم ، ولا أولادهم .
ثم تحدثت السورة الكريمة فى أواخرها من مصارع المكذبين السابقين ، وعن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن الدواء الذى يزيل عن القلوب همومها ، وعن أهوال يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ . . . مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .
و { كَمْ } فى قوله - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } خبرية بمعنى كثير ، وهى منصوبة بما بعدها ، والقرن يطلق على جماعة من الناس تعيش فى زمن واحد ، ومقداره مائة سنة - على الراجح - .
وقوله : { مِّن قَرْنٍ } تمييز لكم ، وجملة { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } صفة ، والبطش : السطوة والأخذ بشدة . أى : واعلم - أيها الرسول الكريم - أننا أهلكنا كثيرا من القرون الماضية التى كذبت رسلها ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقد كانوا أشد من قومك قوة وأكثر جمعا ، وما دام الأمر كما ذكرنا لك ، فلا تحزن ولا تبتئس لما يصيبك من الكافرين المعاصرين لك ، فنحن فى قدرتنا أن ندمرهم تدميرا .
والضمير فى قوله - تعالى - : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } يعود إلى أهل تلك القرون المهلكة الماضية . والتنقيب : السير فى الأرض ، والطواف فيها . والبحث بين أرجائها ، يقال : نقب فلان فى الأرض ، إذا ذهب فيها واصل النَّقْب : الخرق والدخول فى الشئ ، ومنه قولهم : نقب فلان الجدار ، إذا أحدث فيه خرقا .
والمراد به هنا : السير فى الأرض ، والتفتيش فيها . .
قال الآلوسى : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } أى : ساروا فى الأرض وطوفوا فيها حذر الموت . .
نقبوا فى البلاد حذر الموت . . . وجالوا فى الأرض كل مجال
وشاع التنقيب فى العرب بمعنى التنقير عن الشئ والبحث عن أحواله . .
والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه ، لمجرد التعقيب ، وعلى تفسيره بالتصرف للسببيه ، لأن تصرفهم فى البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم ، وهى على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها ، كأنه قيل : اشتد بطشهم فنقبوا فى البلاد .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } للإِنكار والنفى ، والمحيص : المعدل والمهرَب ، يقال : حاص فلان عن الشئ يحيص حَيْصاً ، ومَحِيصا ، إذا عدل وحاد عنه ، وحاول الهروب منه . أى : أن هؤلاء المكذبين السابقين ، كانوا أشد من مشركى قريش قوة وأكثر جميعا ، وكانوا أكثر ضربا فى الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار ، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه ، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا .
فعليكم - أيها المشركون - أن تعتبروا بهم ، حتى لا يصيبكم ما أصابهم .
فالمقصود بالآية الكريمة ، تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد .
وقوله : وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون ، هُمْ أشَدّ من قريش الذين كذّبوا محمدا بَطْشا فَنّقُبوا في البِلادِ يقول : فَخَرَقُوا البلادَ فساروا فيها ، فطافوا وتوغّلوا إلى الأقاصي منها قال امرؤ القَيس :
لقَدْ نَقّبْتُ فِي الاَفاقِ حتّى *** رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بالإيابِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَنَقّبُوا فِي البِلادِ قال : أثّروا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَنَقّبُوا فِي البِلادِ قال : يقول : عملوا في البلاد ذاك النقْب . ذكر من قال ذلك :
وقوله : هَلْ مِنْ مَحِيصٍ يقول جلّ ثناؤه : فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت ومَنْجي من الهلاك إذ جاءهم أمرنا . وأضمرت كان في هذا الموضع ، كما أضمرت في قوله وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ التي أخْرَجَتْك أهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ بمعنى : فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم . وقرأت القرّاء قوله فَنَقّبُوا بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم . وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك «فَنَقِبُوا » بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد : أي طوّفوا في البلاد ، وتردّدوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله مِنْ مَحِيصٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ . . . حتى بلغ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قد حاص الفَجرة فوجدوا أمر الله مُتّبِعا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : فَنَقّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال : حاص أعداء الله ، فوجدوا أمر الله لهم مُدْرِكا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال : هل من منجي .
{ وكم أهلكنا قبلهم } قبل قومك . { من قرن هم أشد منهم بطشا } قوة كعاد وثمود وفرعون . { فنقبوا في البلاد } فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها ، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت ، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب ، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه . { هل من محيص } أي لهم من الله أو من الموت . وقيل الضمير في { نقبوا } لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ، ويؤيده أنه قرئ " فنقبوا " على الأمر ، وقرئ " فنقبوا " بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم .
{ كم } للتكثير وهي خبرية ، المعنى كثيراً { أهلكنا قبلهم } . والقرن : الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن . واختلف الناس في ذلك القدر ، فقال الجمهور : مائة سنة ، وقيل غير هذا ، وقد تقدم القول فيه غير مرة . وشدة البطش : هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك .
وقرأ جمهور من الناس : «فنقَّبوا » بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية ، والمعنى : ولجوا البلاد من أنقابها وفي الحديث : «أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال »{[10559]} . والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد نقبت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإياب{[10560]}
ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
نقبوا في البلاد من حذر الموت . . . وجالوا في الأرض كل مجال{[10561]}
وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية : «فنقِّبوا » بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين .
و : { هل من محيص } توقيف وتقرير ، أي لا محيص ، والمحيص : المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد ، قال قتادة : حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعاً مدركاً ، وفي صدر البخاري ( فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ){[10562]} . وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته : [ الوافر ]
إذا حاص الدليل رأيت منها . . . جنوحاً للطريق على اتساق{[10563]}
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه : «فنقَبوا » بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد ، واللفظة أيضاً قد تقال بمعنى البحث والطلب ، تقول : نقب عن كذا اي استقصى عنه ، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها ، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب .
انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] وما فُرّع عليه من قوله : { أفَعَيِينَا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] . وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس إلى قوله : { فحقّ وعيد } [ ق : 12 ، 14 ] . فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً } .
والخبر الذي أفاده قوله : { وكم أهلكنا قبلهم } تعريض بالتهديد وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وضميرا { قبلهم } و { منهم } عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ويفسره قوله بعده فقال الكافرون هذا شيء عجيب } [ ق : 2 ] . وجرى على ذلك السَّنَن قوله : { كَذَّبت قبلهم قوم نوح } وقوله : { بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] ، ونظائره في القرآن كثيرة .
و { كم } خبرية وجرّ تمييزها ب { من } على الأصل .
والبطش : القوة على الغير . والتنقيب : مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب ، فيكون بمعنى : خَرَقوا ، واستعير لمعنى : ذللوا وأخضعوا ، أي تصرفوا في الأرض بالحفر الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله : { وأثارُوا الأرض وعَمَرُوها } في سورة الروم ( 9 ) .
وتعريف البلاد } للجنس ، أي في الأرض كقوله تعالى : { الذين طغوا في البلاد } [ الفجر : 11 ] .
والفاء في { فنقبوا } لتفريع عن { أشد منهم بطشاً } ، أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد .
والجملة معترضة بين جملة { وكم أهلكنا قبلهم } إلى آخره .
وجملة { هل من محيص } كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] .
وجملة { هل من محيص } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } ، أي إهلاكاً لا منجى منه . ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة . فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك دخلت { من } على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال : ما مِن محيص ، وهذا قريب من قوله في سورة ص ( 3 ) { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص } .
والمحيص : مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد ، أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد } في سورة مريم ( 98 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكم أهلكنا} بالعذاب {قبلهم} يعني قبل كفار مكة {من قرن} يعني أمة {هم أشد منهم} من أهل مكة {بطشا} يعني قوة {فنقبوا} يعني هربوا {في البلاد} ويقال: حولوا في البلاد {هل من محيص} يقول: هل من فرار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ "يقول تعالى ذكره: وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون، "هُمْ أشَدّ" من قريش الذين كذّبوا محمدا "بَطْشا فَنّقُبوا في البِلادِ" يقول: فَخَرَقُوا البلادَ فساروا فيها، فطافوا وتوغّلوا إلى الأقاصي منها... عن ابن عباس "فَنَقّبُوا فِي البِلادِ" قال: أثّروا...
وقوله: "هَلْ مِنْ مَحِيصٍ" يقول جلّ ثناؤه: فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت ومَنْجى من الهلاك إذ جاءهم أمرنا. وأضمرت كان في هذا الموضع، كما أضمرت في قوله "وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ التي أخْرَجَتْك أهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ" بمعنى: فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم. وقرأت القرّاء قوله "فَنَقّبُوا" بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم. وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك «فَنَقِبُوا» بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد: أي طوّفوا في البلاد، وتردّدوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: يقول: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم ولا الانتصار على ذلك، فكيف يملك قومك دفع ما ينزل بهم لو أصرّوا على التكذيب؟ والثاني: يقول: قد أهلك الذين كانوا قبل قومك الذين كذّبوا رسلهم، أُهلكوا إهلاك عقوبة وتعذيب، والذين صدّقوا أُهلكوا بآجالهم لا إهلاك عقوبة. وقد كانوا جميعا المصدّقين والمكذبين سواء في هذه الدنيا. وفي الحكمة التفريق بينهم. دلّ أن هنالك دارا أخرى يفرّق بينهم.. وقوله تعالى: {فنقّبوا في البلاد}...
ويحتمل أي تقلّبوا في البلاد في تجاراتهم فلم يجدوا ملجأ يردّ به هلاكهم؛ يوعد بما ذكر أهل مكة أنهم لم يجدوا محيصا، فكيف تجدون أنتم؟...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وكم أهلكنا" ومعناه وكثيرا أهلكنا... والقرن المقدار من الزمان الذي يقترن بالبقاء فيه أهله على مجرى العادة...
" هم أشد منهم بطشا " أي الذين أهلكناهم مثل هؤلاء الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء وأكثر عدة كقوم عاد وغيرهم فلم يتعذر علينا ذلك، فما الذي يؤمن هؤلاء من مثل ذلك...
وقوله "فنقبوا في البلاد" أي فتحوا مسالك في البلاد بشدة بطشهم فالتنقيب: التفتيح بما يصلح للسلوك من نقض البنية...
وقوله "هل من محيص" أي هل من محيد، وهو الذهاب في ناحية عن الأمر للهرب منه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي اعْتَبِروا بالذين تَقَدَّموكم؛ انهمكوا في ضلالتهم، وأَصَرُّوا، ولم يُقْلِعوا.. فأهلكناهم وما أَبْقَيْنَا منهم أحداً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«فنقبوا»... التنقيب: التنقير عن الأمر والبحث والطلب...
والمعنى: فنقبت أخفاف إبلهم. أو: حفيت أقدامهم ونقبت، كما تنقب أخفاف الإبل لكثرة طوفهم في البلاد. {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} من الله، أو من الموت...
قوله تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا}.
لما أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم، أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك والإهلاك المدرك، وبين لهم حال من تقدمهم، وقد تقدم تفسيره في مواضع، والذي يختص بهذا الموضع أمور؛
(أحدها) إذا كان ذلك للجمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل، فلم توسطهما قوله تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} إلى قوله: {ولدينا مزيد} نقول ليكون ذلك دعاء بالخوف والطمع، فذكر حال الكفور المعاند، وحال الشكور العابد في الآخرة ترهيبا وترغيبا، ثم قال تعالى: إن كنتم في شك من العذاب الأبدي الدائم، فما أنتم في ريب من العذاب العاجل المهلك الذي أهلك أمثالكم، فإن قيل: فلم لم يجمع بين الترهيب والترغيب في العاجلة، كما جمع بينهما في الآجلة، ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه، كما ذكر حال من أشرك به فأهلكه نقول لأن النعمة كانت قد وصلت إليهم، وكانوا متقلبين في النعم، فلم يذكرهم به، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به، وأما في الآخرة، فكانوا غافلين عن الأمرين جميعا، فأخبرهم بهما.
(الثاني) قوله تعالى: {فنقبوا في البلاد}. في معناه وجوه؛
(أحدها) هو ما قاله تعالى في حق ثمود {الذين جابوا الصخر بالواد} من قوتهم خرقوا الطرق ونقبوها، وقطعوا الصخور وثقبوها.
(ثانيها) نقبوا، أي ساروا في الأسفار ولم يجدوا ملجأ ومهربا، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد أهل مكة، أي هم ساروا في الأسفار، ورأوا ما فيها من الآثار.
(ثالثها) {فنقبوا في البلاد} أي صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم بطشهم وقوتهم، ويدل على هذا الفاء، لأنها تصير حينئذ مفيدة ترتب الأمر على مقتضاه، تقول كان زيد أقوى من عمرو فغلبه، وكان عمرو مريضا فغلبه زيد، كذلك هاهنا قال تعالى: {هم أشد منهم بطشا} فصاروا نقباء في الأرض، وقرئ {فنقبوا} بالتشديد، وهو أيضا يدل على ما ذكرنا في الوجه الثالث، لأن التنقيب البحث، وهو من نقب بمعنى صار نقيبا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أي: هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل؟ فأنتم أيضًا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكم أهلكنا} أي بما لنا من العظمة. ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال: {قبلهم} وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله: {من قرن} أي جيل هم في غاية القوة، وزاد في بيان القوة فقال: {هم} أي أولئك القرون بظواهرهم وبواطنهم {أشد منهم} أي من قريش {بطشاً} أي قوة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة...
{فنقبوا} أي أوقعوا النقب {في البلاد} بأن فتحو فيها الأبواب الحسية والمعنوية وخرقوا في أرجائها ما لم يقدر غيرهم عليه وبالغوا في السير في النقاب، وهي طرق الجبال والطرق الضيقة فضلاً عن الواسعة وما في السهول، بعقولهم الواسعة وآرائهم النافذة وطبائعهم القوية، وبحثوا مع ذلك عن الأخبار، وأخبروا غيرهم بما لم يصل إليهم، وكان كل منهم نقاباً في ذلك أي علامة فيه فصارت له به مناقب أو مفاخر...
{هل من محيص} أي معدل ومحيد ومهرب وإن دق، من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلاّ أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم.. فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي (هل من محيص)؟!
«القرن» و «الاقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الاقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحياناً كما يطلق على مئة سنة أيضاً، فإهلاك القرون معناه إهلاك الأمم السابقة.
و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.
و «نقّبوا»: فعل من مادّة نقب، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب، والنقب معناه أعمّ وأوسع.
وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضاً.
«المنقبة»: من المادّة ذاتها، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين، أو أنّها تشقّ له الطريق في الارتقاء والسمو!
و «النقيب»: هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.
و «المحيص»: كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف»، ومعناها الانحراف والعدول عن الشيء، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين.. الذين كانوا اُمماً وأقواماً أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً» وهذا المعنى ورد مراراً في القرآن منها الآية 8 من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى: (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً).
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضاً.
أمّا جملة (هل من محيص) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب، فكانوا يسألون: هل من فرار ومحيص عنه، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي هل استطاع مَن كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!