ويقولون : { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي : حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم ، وذلك متضمن لزوال كل مكروه ، ومستلزم لحصول كل محبوب .
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } أي : صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية ، والجنان الغالية ، { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }
فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة ، أن يجاهدها ، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب ، لعلها تحظى بهذه الدار ، التي هي منية النفوس ، وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح ، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون .
وجملة { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } مقول لقول محذوف ، وهو حال من فاعل يدخلون وهم الملائكة وهى بشارة لهم بدوام السلامة .
وفى قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } إشارة إلى أن صبرهم على مشاق التكاليف ، وعلى الأذى ، وعلى كل ما يحمد فيه الصبر ، كان على رأس الأسباب التي أوصلتهم إلى تلك المنازل العالية .
هذا ومن الأحاديث التي ذكرها الإِمام ابن كثير هنا ، ما رواه الإِمام أحمد - بسنده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون ، الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم ؟
قال : إنهم كانوا عبادا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره ، فلا يستطيع لها قضاء . قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ }
وأما قوله : سَلامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فإن أهل التأويل قالوا في ذلك نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزّاق ، عن جفعر بن سليمان ، عن أبي عمران الجُوْنِيّ أنه تلا هذه الآية : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ قال : على دينكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ قال : حين صبروا لله بما يحبه الله فقدّموه . وقرأ : وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنّةً وَحَرِيرا حتى بلغ : وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا وصبروا عما كره الله وحرّم عليهم ، وصبروا على ما ثقل عليهم وأحبه الله ، فسلم عليهم بذلك . وقرأ : وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ .
وأما قوله : فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ فإن معناه إن شاء الله كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال حدثنا عبد الرزاق ، عن جعفر ، عن أبي عمران الجوْنِي في قولهم فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ قال : الجنة من النار .
وقوله : { ومن صلح } أي من عمل صالحاً وآمن - قاله مجاهد وغيره - ويحتمل : أي من صلح لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه .
وحكى الطبري في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها . والمعنى : يقولون : سلام عليكم ، فحذف - يقولون - تخفيفاً وإيجازاً ، لدلالة ظاهر الكلام عليه ، والمعنى : هذا بما صبرتم{[3]} ، والقول في { عقبى الدار } على ما تقدم من المعنيين .
وقرأ الجمهور «فنِعْم » بكسر النون وسكون العين ، وقرأ يحيى بن وثاب «فنَعِم » بفتح النون وكسر العين .
وقالت فرقة : معنى { عقبى الدار } أي أن أعقبوا الجنة من جهنم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل مبني على حديث ورد ، وهو : أن كل رجل في الجنة فقد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله عنه إلى النعيم ، فيعرض عليه ويقال له : هذا كان مقعدك فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك{[4]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالوا لهم: {سلام عليكم بما صبرتم} في الدنيا على أمر الله، {فنعم عقبى الدار}، يثني الله على الجنة عقبى الدار، عاقبة حسناهم دار الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما قوله:"سَلامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ" فإن أهل التأويل قالوا في ذلك نحو قولنا فيه... عن أبي عمران الجُونِيّ أنه تلا هذه الآية: "سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ "قال: على دينكم... قال ابن زيد، في قوله: "سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ" قال: حين صبروا لله بما يحبه الله فقدّموه. وقرأ: "وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنّةً وَحَرِيرا" حتى بلغ: "وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا"، وصبروا عما كره الله وحرّم عليهم، وصبروا على ما ثقل عليهم وأحبه الله، فسلم عليهم بذلك. وقرأ: "وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ".
وأما قوله: "فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ" فإن معناه إن شاء الله:... عن أبي عمران الجوْنِي في قوله: "فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ" قال: الجنة من النار.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"سلام عليكم بما صبرتم" أي يقول هؤلاء الملائكة الداخلون عليهم: "سلام عليكم". والسلام: التحية بالكرامة على انتفاء كل أمر يشوبه من مضرة...
والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، فعقبى المؤمن الجنة فهي نعم الدار، وعقبى الكافر النار، وهي بئس الدار. و (الباء) في قوله "بما صبرتهم "يتعلق بمعنى" سلام عليكم "لأنه دل على السلامة لكم بما صبرتم، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف، وتقديره هذه الكرامة لكم بما صبرتم.
وقيل في معنى" بما صبرتم "قولان:
أحدهما -أن تكون (ما) بمعنى المصدر، فكأنه قال: بصبركم.
والثاني- أن تكون بمعنى (الذي) كأنه قال بالذي صبرتم على فعل طاعاته وتجنب معاصيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعنون هذا الثواب بسبب صبركم... ويجوز أن يتعلق بسلام، أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... "سلام عليكم بما صبرتم"... قيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء، ويتضمن الاعتراف بالعبودية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
يقولون لهم: {سلام عليكم} والسلام: التحية بالكرامة على انتفاء كل شائب من مضرة، وبين أن سبب هذا السلام الصبر فقال: {بما صبرتم} أي بصبركم، والذي صبرتم له، والذي صبرتم عليه، إشارة إلى أن الصبر عماد الدين كله. ولما تم ذلك تسبب عنه قوله: {فنعم عقبى الدار} وهي المسكن في قرار، المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها والمرافق التي ينتفع بها؛ والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).. فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {سلام عليكم} مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلاماً من الداخلين. وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة.
والباء في {بما صبرتم} للسببية، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو {عليكم}. والتقدير: نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم. ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف مستفادٍ من المقام، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم.
والمراد: الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
وفرع على ذلك {فنعم عقبى الدار} تفريع ثناء على حسن عاقبتهم. والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه. والتقدير: فنعم عقبى الدار دارُ عُقْباكم.