تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

ثم بين - سبحانه - أن الكون كله يخضع لسلطانه - تعالى - ويسجد لوجهه فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ . . . } .

الاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير . والرؤية هنا بمعنى العلم وذلك لأن سجود هذه الكائنات لله - تعالى - آمنا به عن طريق الإخبار دون أن نرى كيفيته .

والسجود فى اللغة : التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وما يشبهه . وخص فى الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .

والمراد به هنا : دخول الأشياء جميعها تحت قبضة الله - تعالى - وتسخيره وانقيادها لكل ما يريده منا انقيادا تاماً ، وخوضعها له - عز وجل - بكيفية هو الذى يعلمها . فنحن نؤمن بأن هذه الكائنات تسجد لله - تعالى - ونفوض كيفية هذا السجود له - تعالى - .

والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - أن الله - تعالى - يسجد له ، ويخضع لسلطانه جميع من فى السموات وجميع من فى الأرض .

وقوله : { والشمس والقمر والنجوم } عطف خاص على قوله : { مَن فِي السماوات } .

ونص - سبحانه - عليها مفرداً إياها بالذكر ، لشهرتها ، ولاستبعاد بعضهم حدوث السجود منها ، ولأ آخرين كانوا يعبدون هذه الكواكب ، فبين - سبحانه - أنها عابدة وساجدة لله ، وليست معبودة .

وقوله - تعالى - : { والجبال والشجر والدوآب } عطف خاص على { مَن فِي الأرض } ونص - سبحانه - عليها - أيضاً - لأن بعضهم كان يعبدها ، أو يعبد ما يؤخذ منها كالأصنام .

وقوله - تعالى - { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } بيان الذين اهتدوا إلى طريق الحق . أى : ويسجد له - كذلك - كثير من الناس ، وهم الذين خلصت عقولهم من شوائب الشرك والكفر ، وطهرت نفوهسم من الأدناس والأوهام .

وقوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } بيان لحال الذين استحبوا العمى على الهدى .

أى : وكثير من الناس حق وثبت عليهم العذاب ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وإيثارهم الغى على الرشد .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على نفاذ قدرته ، وعموم مشيئته فقال : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } . و " من " شرطية ، وجوابها : " فما له من مكرم " ومكرم اسم فاعل من أكرم .

أى : ومن يهنه الله ويخزه ، فما له من مكرم يكرمه ، أو منقذ ينقذه مما هو فيه من شقاء ، إن الله - تعالى - يفعل ما يشاء فعله بدون حسيب يحاسبه ، أو معقب يعقب على حكمه .

قال - تعالى - : { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد بقلبك ، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم ، والشمس والقمر والنجوم في السماء ، والجبال ، والشجر ، والدوابّ في الأرض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس وحين تزول إذا تحوّل ظلّ كل شيء فهو سجوده . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ والنّجُومُ والجِبالُ والشّجَرُ والدّوَابّ قال : ظلال هذا كله .

وأما سجود الشمس والقمر والنجوم ، فإنه كما :

حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر ، قالا : حدثنا عوف ، قال : سمعت أبا العالية الرياحي يقول : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين وزاد محمد : حتى يرجع إلى مطلعه .

وقوله : وكَثيرٌ منَ النّاسِ يقول : ويسجد كثير من بني آدم ، وهم المؤمنون بالله . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ قال : المؤمنون .

وقوله : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ يقول تعالى ذكره : وكثير من بني آدم حق عليه عذاب الله فوجب عليه بكفره به ، وهو مع ذلك يسجد لله ظله . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ وهو يسجد مع ظله .

فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد ، وقع قوله : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ بالعطف على قوله : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ ويكون داخلاً في عداد من وصفه الله بالسجود له ، ويكون قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ من صلة «كثير » ، ولو كان «الكثير » الثاني ممن لم يدخل في عداد من وصفه بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ : وكثير أتى السجود ، لأن قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ يدلّ على معصية الله وإبائه السجود ، فاستحقّ بذلك العذاب .

يقول تعالى ذكره : ومن يهنه الله من خلقه فَبُشْقِه ، فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بيد الله ، يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء ، ويُشقي من أراد ويسعد من أحبّ .

وقوله : إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يقول تعالى ذكره : إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لأن الخلق خلقه والأمر أمره . لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه : «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ » بمعنى : فما من إكرام ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

{ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض } يستخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره ، أو يدل بذلته على عظمته مدبره ، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها . وقرىء { والدواب } بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين . { وكثير من الناس } عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في كل واحد من مفهوميه ، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر ، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم ، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب ، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة . { وكثير حق عليه العذاب } بكفره وإبائه عن الطاعة ، ويجوز أن يجعل " وكثيرا " تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب وأن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده . وقرىء { حق } بالضم و " حقا " بإضمار فعله . { ومن يهن الله } بالشقاوة { فما له من مكرم } يكرمه بالسعادة ، وقرىء بالفتح بمعنى الإكرام . { إن الله يفعل ما يشاء } من الإكرام والإهانة .