فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير 259

( أو كالذي مر على قرية ) أي ألم تر إليه كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود .

و اختلف في ذلك المار فروى عن مجاهد أنه كان كافرا شك في البعث ، وهذا ضعيف جدا لقوله ( كم لبثت ) والله لا يخاطب الكافر ، ولقوله ( ولنجعلك آية للناس ) وهذا لا يستعمل في حق الكافر .

وقال ابن عباس ، وعبد الله بن سلام وسليمان وبريدة والضحاك وقتادة وعكرمة والسدي : هو عزيز بن شرخيا ، وقال ابن عبيد ووهب بن منبه : هو ارمياء بن حلقياء من سبط هرون وهو الخضر بعينه ، وعن رجل من أهل الشام أنه حزقيل .

ومقصود القصة تعريف منكري البعث قدرة الله على إحياء خلقه بعد إماتتهم لا تعريف اسم ذلك المار .

قال وهب وعكرمة والربيع : إن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بخت نصر لها ، وقيل المراد بالقرية أهلها ، وقيل هي القرية التي خرج أهلها من ديّارهم وهو ألوف ، وقال الكلبي : هي دير سابر آباد موضع بفارس ، وقال السدي : سلما باد محلة أو قرية من نواحي جرجان أو همدان ، وقيل دير هرقل بين بصرة وعسكر مكرم على شط دجلة ، والأول هو الأظهر والأشهر .

( وهي خاوية على عروشها ) أي ساقطة يعني سقط السقف ثم سقطت الحيطان عليه ، قاله السدي واختاره ابن جرير ، وقيل معناه خالية من الناس ، والبيوت قائمة ، وأصل الخوى : الخلو يقال خوت الدار وخويت تخوي خواء ممدود وخويا أقوت ، والخوى أيضا الجوع لخلو البطن عن الغذاء .

والظاهر القول الأول بدلالة قوله ( على عروشها ) من خوى البيت إذا سقط وخوت الأرض إذا انهدمت ، قال ابن عباس : خاوية أي خراب ، وقال قتادة : خاوية أي ليس فيها أحد ، وقال الضحاك : العروش السقوف .

( قال ) أي ذلك المار ( أنى يحيى هذه الله بعد موتها ) أي متى يحيي أو كيف يحيي ، وهو استبعاد لإحيائها وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء ، وتقديم المفعول لكون الإستبعاد ناشئا من جهته لا من جهة الفاعل ، وقيل : قال ذلك استعظاما لقدرته تعالى ، قاله السيوطي .

وعبارة أبي السعود قال : ذلك تلهفا عليها ، وتشوقا الى عمارتها مع استشعار اليأس منها ، وعبارة البيضاوي قال : ذلك اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء .

وسبب توجعه على تلك القرية انه كان اهلها من جملة من سباهم بخت نصر ، فلما خلص من السبي وجاء ورآها على تلك الحالة توجع وتلهف .

ولما قال المار هذه المقالة مستبعدا لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه فقال ( فأماته الله مائة عام ) وحكى الطبري عن بعضهم أنه كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء فلذلك ضرب له المثل في نفسه .

قال ابن عطية : ليس يدخل شك في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله عن احياء موتاها ، والعام السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان والعوم هو السباحة سميت السنة عاما لأن الشمس تعوم في جميع بروجها .

( ثم بعثه ) أي أحياه ليريه كيفية ذلك ، وإيثار البعث على الإحياء للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري تعالى كأنه بعثه من النوم ، وللإيذان بأنه عاد كهيئته يوم موته عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال .

قال علي : فأول ما خلق الله عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض ثم كسيت لحما ثم نفخ فيه الروح ، قال علي : فأتى مدينته وقد ترك جارا له إسكافا شابا فجاء وهو شيخ كبير .

( قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ) اختلف في فاعل قال فقيل هو الله عز وجل وقيل ناداه بذلك ملك من السماء قيل هو جبريل وقيل غيره ، وقيل إنه نبي من الأنبياء وقيل رجل من المؤمنين من قومه شاهده عند إن أماته الله وعمر إلى حين بعثه ، والأول أولى لقوله فيما بعد ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) .

وإنما قال ( يوما أو بعض يوم ) بناء على ما عنده وفي ظنه فلا يكون كاذبا ، ومثله قول أصحاب الكهف ( قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ) ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين " لم تقصر ولم أنس " {[261]} وهذا مما يؤيد قول من قال : إن الصدق ما طابق الاعتقاد والكذب ما خالفه .

وقيل إن الله أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس ، فقال ( لبثت يوما ) وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال ( أو بعض يوم ) وقيل إن أو بمعنى بل التي للإضراب وهو قول ثابت وقيل هي للشك والأول أولى .

( قال بل لبثت مائة عام ) هو استئناف أيضا كما سلف أي ما لبثت يوما أو بعض يوم بل لبثت مائة عام ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) الطعام هو التين الذي كان معه والشراب هو العصير ، والمعنى لم يتغير ولم ينتن فكان التين كأنه قد قطف من ساعته ، والعصير كأنه عصر من ساعته .

أمره الله أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة ، وهو عدم تغير طعامه وشرابه مع طول تلك المدة .

والتسنه مأخوذ من السنة أي لم تمر عليه السنون أي المائة سنة لبقائه على حاله وعدم تغيره مع طول الزمان ، مع أن شأنه التغير سريعا ، وأصله سنهة أو سنعة من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون ، ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى .

وقيل هو من أسن الماء إذا تغير ، وكان يجب على هذا أن يقال يتأسن من قوله ( حمإ مسنون ) قاله أبو عمرو الشيباني ، وقال الزجاج : ليس كذلك لأن قوله ( مسنون ) ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنه الأرض .

( وانظر إلى حمارك ) اختلف المفسرون في معناه فذهب الأكثر إلى أن معناه أنظر إليه كيف تفرقت أجزاؤه ونخرت عظامه وتقطعت أوصاله ، ثم أحياه الله وعاد كما كان لتشاهد كيفية الإحياء ، فالنظران مختلفان ، وقال الضحاك ووهب بن منبه : أنظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شئ بعد أن مضت عليه مائة عام .

ويؤيد القول الأول قوله تعالى ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) .

وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه وشرابه بعد إخباره أنه لبث مائة عام ، مع أن عدم تغير ذلك الطعام والشراب لا يصلح أن يكون دليلا على تلك المدة الطويلة ، بل على ما قاله من لبثه يوما أو بعض يوم ، لزيادة استعظام ذلك الذي أمات تلك المدة ، فانه إذا رأى طعامه وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظن أنه لم يلبث إلا يوما أو بعض يوم ، زادت الحيرة وقويت عليه الشبهة ، فإذا نظر إلى حماره عظاما نخرة تقرر لديه ان ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول ، فإن الطعام والشراب سريع التغير ، وقد بقي هذه المدة الطويلة غير متغير ، والحمار يعيش المدة الطويلة وقد صار كذلك فتبارك الله أحسن الخالقين .

( و لنجعلك آية للناس ) وعبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله الفراء ، وقال الأعمش : كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات فوجد الأبناء والحفدة شيوخا .

( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) قرأ الكوفيون بالزاي والباقون بالراء ، وقد أخرج الحاكم وصححه عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ كيف ننشزها فمعنى القراءة بالزاي نرفعها ومنه النشز ، وهو المرتفع من الأرض أي نرفع بعضها إلى بعض ، وأما معنى القراءة بالراء فواضحة من أنشر الله الموتى أي أحياهم .

( ثم نكسوها لحما ) أي نسترها به كما يستر الجسد باللباس ، واستعار اللباس لذلك ولعل عدم التعرض لنفخ الروح لما أن الحكمة لا تقتضي بيانه .

( فلما تبين له ) ما تقدم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه وأمره بالنظر إليها والتفكر فيها التي استغربها ، قال ابن جرير : لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه من إحياء القرية .

وقال الزمخشري : ما أشكل عليه يعني من أمر الإحياء ، والأول أولى لأن قوة الكلام تدل عليه بخلاف الثاني .

( قال أعلم ) أي علم مشاهدة بعد العلم اليقيني الحاصل بالفطرة والأدلة العقلية ، قال أبو علي الفارسي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته ( أن الله على كل شئ قدير ) لا يستعصي عليه شئ من الأشياء ، ويدخل تحته الإماتة والإحياء دخولا أوليا .


[261]:الدارمي كتاب الصلاة باب 175.