فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

{ ولو أن } جميع { ما في الأرض من شجرة أقلام } وحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل ، قيل : وتوحيد شجرة لأن المراد تفصيل الشجر ، واستقصاؤه ، فكأنه قال : كل شجرة شجرة حتى لا تبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلام ، ولو لم يفرد لم يفد هذا المعنى إذ الجمع يتحقق بما فوق الثلاثة ، إلا أن تدخل عليه لام الاستغراق هكذا قرروه ، قال الشهاب : وفيه بحث فان إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار أو الاستغراق بدون نفي محل نظر ، لأنه إنما عهد ذلك في نحو جاءوني رجلا رجلا وما عندي تمرة . قال أبو حيان : وهو من وقوع المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع المعرفة ، كقوله : ما ننسخ من آية ، وجمع الأقلام لقصد التكثير ، أي : ولو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاما ، ثم قال سبحانه :

{ والبحر } أي المحيط لأنه المتبادر من التعريف ، إذ هو الفرد الكامل قرئ البحر بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره يمده ، وبالنصب عطفا على اسم أن ، أو بفعل مضمر فسره { يمده من بعده } أي : بعد نفاده { سبعة أبحر } أي : والحال أن البحر المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مدا لا ينقطع ، كذا قال سيبويه . وقال المبرد : إن البحر مرتفع بفعل مقدر ، تقديره : ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر ، وقرئ : يمده من أمد وقرئ : بحر مداده ، وجواب لو :

{ ما نفدت كلمات الله } التي هي عبارة عن معلوماته ، لأنها لا نهاية لها ، قال أبو علي الفارسي : المراد بالكلمات –والله أعلم- ما في المقدور والإمكان ، دون ما خرج منه إلى الوجود والزمان ، ووافقه القفال ، فقال : المعنى : أن الأشجار لو كانت أقلاما ، والبحار مدادا ، فكتب بها عجائب صنع الله تعالى ، الدالة على قدرته ووحدانيته ، لم تنفد تلك العجائب . قال القشيري : رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات ، وحمل الآية على الكلام القديم أولى ، والمخلوق لا بد له من نهاية ، وإذا نفيت النهاية فهي نفي للنهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده ، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه ، والقديم لا نهاية له على التحقيق .

قال النحاس : قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء ، لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء ، وعلم ما فيه من مثاقيل الذر ، وعلم الأجناس كلها ، وما فيها من شعرة وعضو ، وما في الشجرة من ورق ، وما فيها من ضروب الخلق . وقيل : إن قريشا قالت : ما أكثر كلام محمد ؟ فنزلت قاله السدي .

وعن ابن مسعود قال : إن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة : " يا محمد أرأيت قولك : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، إيانا تريد ؟ أم قومك ؟ " فقال : كلا ، فقالوا : ألست تتلوا فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال : " إنها في علم الله قليل ، وأنزل الله ولو أن ما في الأرض . . . الآية " أخرجه ابن اسحق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم . قال أبو عبيدة : المراد بالبحر هنا : الماء العذب الذي ينبت الأقلام ، وأما المالح فلا ينبتها ، قال الشوكاني : ما أسقط هذا الكلام وأقل جدواه { إن الله عزيز حكيم } أي : غالب لا يعجزه شيء ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته .