فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ} (20)

{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ( 20 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( 21 ) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ( 22 ) }

{ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ؟ } قال الزجاج : معنى تسخيرها للآدميين : الانتفاع بها ، انتهى ، فمن مخلوقات السماوات المسخرة لبني آدم بأمر الله سبحانه : الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب . وغير ذلك ، ومن مخلوقات الأرض المسخرة : الأحجار ، والمعادن ، والتراب ، والزرع ، والشجر ، والثمر ، والبحار ، والأنهار ، والحيوانات ، والدواب التي ينتفعون بها ، والعشب الذي يرعون فيه دوابهم ، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فالمراد بالتسخير : جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له ، سواء كان منقادا له وداخلا تحت تصرفه أم لا .

{ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } أي : أتم وأكمل عليكم نعمه ، يقال : سبغت النعمة إذا تمت وكملت وقرئ اصبغ بإبدال السين صادا وهي لغة كلب ، يفعلون ذلك في كل سين اجتمع مع الغين ، والخاء والقاف ، كصلخ وصقر ، والنعم جمع نعمة ، وقرئ نعمة على الإفراد والتنوين ، اسم جنس يراد به الجمع ، ويدل به على الكثرة ، كقوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، والنعمة : كل نفع قصد به الإحسان .

والمراد بالنعم الظاهرة : ما يدرك بالعقل أو الحس ، ويعرفه من يتعرفه . وبالباطنة : ما لا يدرك للناس ، ويخفى عليهم . وقيل : الظاهرة الصحة ، وكمال الخلق ، والبصر ، والسمع ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة . والباطنة : المعرفة ، والعقل ، والقلب ، والفهم ، وما أشبه ذلك .

وقيل : الظاهرة : مل يرى بالأبصار من المال والجاه ، والجمال ، وفعل الطاعات ، والباطن : ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله ، وحسن اليقين ، وما يدفعه الله عن العبد من الآفات ، وقد سرد المارودي في هذا أقوالا تسعة ، كلها ترجع إلى هذا .

وقيل : الظاهرة : نعم الدنيا ، والباطنة : نعم الآخرة ، وقيل : الظاهرة : الإسلام والقرآن والجمال ، والباطنة : ما ستره الله عن العبد من الأعمال السيئة ، وقيل : الظاهرة : تسوية الأعضاء ، وحسن الصورة ، والباطنة : الاعتقاد بالقلب . وقيل : الظاهرة : الرزق ، والباطنة : حسن الخلق . وقيل : الظاهرة : تخفيف الشرائع ، والباطنة : الشفاعة . وقيل الظاهرة : ظهور الإسلام والنصر على الأعداء . والباطنة الإمداد بالملائكة . وقيل : الظاهرة : إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والباطنة : محبته . واللفظ أعم من ذلك .

وعن عطاء قال : سألت ابن عباس عن هذا ، فقال هذه من كنوز علمي ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما الظاهرة فما سوى من خلقك ، وأما الباطنة فما ستر من عورتك ، ولو أبداها لقلاك أهلك ، فمن سواهم " . أخرجه البيهقي .

وعنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله وأسبغ عليكم نعمه الخ ، فقال : أما الظاهرة فالإسلام ، وما سوى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه ، وأما الباطنة فما ستر من مساوي عملك " أخرجه ابن النجار والديلمي والبيهقي وعنه قال : النعمة الظاهرة : الإسلام . والنعمة الباطنة : كل ما ستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود ، أخرجه ابن مردويه وعنه أنه قال في تفسير الآية : هي لا إله إلا الله .

{ ومن الناس من يجادل في الله } أي : في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته مكابرة ، وعنادا بعد ظهور الحق له ، وقيام الحجة عليه ، ولهذا قال { بغير علم } مستفاد من عقل ونقل { ولا هدى } من جهة رسول يهتدي به إلى طريق الصواب .

{ ولا كتاب منير } نير واضح أنزله الله ، بل مجرد تعنت ومحض عناد وتقليد ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة . قيل : نزلت في النضر بن الحرث ، وأبي بن خلف ، وأمية بن خلف ، وأشباههم ، كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في الله ، وفي صفاته بغير علم .