فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (26)

{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } أي أنزل ما يسكنهم فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثابت لم يفر ، والمراد بالمؤمنين هم الذين لم ينهزموا وقيل الذين انهزموا ، والظاهر جميع من حضر منهم لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا .

{ وأنزل جنودا لم تروها } هم الملائكة ، واختلف في عددهم على أقوال ، قيل كانوا خمسة آلاف ، وقيل ثمانية آلاف ، وقيل ستة عشر ألفا ، وقيل غير ذلك ، وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوة . واختلفوا أيضا هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا ، وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر وأنهم إنما حضروا في غير يوم بدر لتقوية قلوب المؤمنين وإدخال الرعب في قلوب المشركين وإن كانوا لا يرونهم ، وقيل أن الكفار كانت تراهم .

عن جبير بن مطعم قال : رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد{[881]} الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم ، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملآ الوادي لم أشك أنها الملائكة ، ولم تكن إلا هزيمة للقوم .

وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار ، فكنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ، ولم نولهم الدبر ، وهم الذين أنزل عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدما فقال : ناولني كفا من تراب فناولته فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا وولى المشركين أدبارهم{[882]} .

{ وعذب الذين كفروا } بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية ، وقال السدي : قتلهم بالسيف ، قيل أسر ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم ، ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم قد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفا ومن الغنم ما لا يحصى عددا ومن الأسرى ما سمعته وكان فيها غير ذلك .

{ وذلك } التعذيب المفهوم من عذب { جزاء الكافرين } سمي ما حل بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف ، بل لابد من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيما له .


[881]:- بجاد بالكسر كليم مخطط. إ هـ صراح.
[882]:- المدرك كتاب الجهاد 2/117.