فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

وجملة : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال ؟ وفي هذا ما يدلّ على أنهم انقطعوا عن الدليل ، وعجزوا عن إبراز الحجة ، ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم ، بل لجأوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة ، وهو : الاحتجاج بما كان عليهم آباؤهم من الكفر ، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم ، وسبب مكابرتهم للحق ، وجحودهم للآيات البينة ، وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها ، وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا ، وكم بقي على الباطل ، وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقه ، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر ، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة ، وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت ، يقال : لفته لفتاً : إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه ، ومنه قول الشاعر :

تلفت نحو الحيّ حتى رأيتني *** وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا

أي : تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا ، وهو عبادة الأصنام ، والمراد بالكبرياء : الملك ، قال الزجاج : سمي الملك كبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ؛ وقيل سمي بذلك ؛ لأن الملك يتكبر .

والحاصل : أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد للآباء ، والحرص على الرياسة الدنيوية ؛ لأنهم إذا أجابوا النبي وصدّقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة ؛ لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك هم بالسياسات والعادات ، ثم قالوا : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } تصريحاً منهم بالتكذيب ، وقطعاً للطمع في إيمانهم ، وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم : أجئتنا لتلفتنا ، ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى ، لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم ، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين ؛ لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم ، ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون ، وقد مرّت القصة في الأعراف .

/خ87