فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة ؛ شرع في ذكر قصص الأنبياء ، لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { واتل عَلَيْهِمْ } أي : على الكفار المعاصرين لك ، المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة { نَبَأَ نُوحٍ } أي : خبره ، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن ، والمراد : ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به ، كما فعله كفار قريش وأمثالهم : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } أي : وقت قال لقومه ، والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال ، واللام في { لِقَوْمِهِ } لام التبليغ { يا قوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي } أي : عظم وثقل ، والمقام بفتح الميم : الموضع الذي يقام فيه ، وبالضم الإقامة . وقد اتفق القراء على الفتح ، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان : أي لأجله . ومنه : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } أي : خاف ربه ، ويجوز أن يراد بالمقام : المكث : أي : شقّ عليكم مكثي بين أظهركم ، ويجوز أن يراد بالمقام : القيام ؛ لأن الواعظ يقوم حال وعظه ؛ والمعنى : إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم ، وكبر عليكم تذكيري لكم { بِآيَاتِ الله } التكوينية والتنزيلية ، { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } هذه الجملة جواب الشرط ، والمعنى : إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله ، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً . ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل ، ويجوز أن يكون جواب الشرط { فَأَجْمِعُواْ } وجملة { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } اعتراض ، كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي . ومعنى : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } اعتزموا عليه ، من أجمع الأمر : إذا نواه وعزم عليه قاله القراء : وروي عن الفراء أنه قال : أجمع الشيء : أعدّه ، وقال مؤرّج السدوسي : أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه ، وأنشد :

يا ليت شعري والمنى لا تنفع *** هل أغدون يوماً وأمري مجمع

وقال أبو الهيثم : أجمع أمره : جعله جميعاً بعدما كان متفرّقاً ، وتفرّقه أن تقول مرّة أفعل كذا ، ومرّة أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه : أي جعله جميعاً ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم ، وقد اتفق جمهور القراء على نصب «شركاءكم » وقطع الهمزة من أجمعوا . وقرأ يعقوب ، وعاصم الجحدري بهمزة وصل في { أجمعوا } ، على أنه من جمع يجمع جمعاً . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب «وشركاؤكم » بالرفع . قال النحاس : وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه : الأوّل : بمعنى : وادعوا شركاءكم ، قاله : الكسائي والفراء ، أي ادعوهم لنصرتكم ، فهو على هذا منصوب بفعل مضمر . وقال محمد بن يزيد المبرد : هو معطوف على المعنى ، قال الشاعر :

يا ليت زوجك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحاً

والرمح لا يتقلد به ، لكنه محمول كالسيف . وقال الزجاج : المعنى مع شركائكم ، فالواو على هذا واو مع . وأما على قراءة أجمعوا بهمزة وصل فالعطف ظاهر : أي اجمعوا أمركم ، وأجمعوا شركاءكم . وأما توجيه قراءة الرفع ، فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في أجمعوا ، وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال . قال النحاس وغيره : وهذه القراءة بعيدة ؛ لأنه لو كان شركاءكم مرفوعاً لرسم في المصحف بالواو ، وليس ذلك موجوداً فيه ، قال المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء ، والخبر محذوف : أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم ، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل ، لقصد التوبيخ ، والتقريع لمن عبدها . وروي عن أبيّ أنه قرأ : «وادعوا شركاءكم » بإظهار الفعل . قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } الغمة : التغطية من قولهم ، غمّ الهلال : إذا استتر ، أي : ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ، قال طرفة :

لعمرك ما أمري عليّ بغمة *** نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

هكذا قال الزجاج ، وقال الهيثم : معناه لا يكن أمركم عليكم مبهماً . وقيل : إن الغمة : ضيق الأمر ، كذا روي عن أبي عبيدة . والمعنى : لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً ، بل ادفعوا هذا الضيق والشدّة بما شئتم ، وقدرتم عليه ، وعلى الوجهين الأوّلين : يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول ، وعلى الثالث : يكون المراد به غيره . قوله : { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } أي ذلك الأمر الذي تريدونه بي ، وأصل اقضوا : من القضاء ، وهو الإحكام ، والمعنى : أحكموا ذلك الأمر . قال الأخفش والكسائي : هو مثل : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه ، ثم لا تنظرون : أي لا تمهلون ، بل عجلوا أمركم واصنعوا ما بدا لكم ، وقيل معناه : ثم امضوا إليّ ولا تؤخرون ، قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ، ومنه قضى الميت : مضى ، وحكى الفراء عن بعض القراء أنه قرأ ثم " أفضوا " بالفاء وقطع الهمزة ، أي توجهوا ، وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدلّ على وثوقه بنصر ربه ، وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه .

/خ74