فنقبوا في البلاد : ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب ، ويقال لمن طوف في الأرض : نقب فيها ، قال امرؤ القيس :
فقد نقبت في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمة بالإياب
محيص : مهرب وملجأ يلجأون إليه .
36- { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص } .
أي : كثيرا ما أهلكنا قبل مشركي مكة ، من أمم كانت أشد منهم قوة ومنعة ، وقد انتقلوا في البلاد وأكثروا السير فيها ، بالتجارة والسياحة والتغلب ، فما عصمهم ذلك من الهلاك ، حين أراد الله أن ينزله بساحتهم .
أي : لم يستطيعوا هربا ولا مناصا من الهلاك ، وأجدر بأهل مكة أن يعتبروا بهم .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } أي كثيراً أهلكنا قبل قومك { مّن قَرْنٍ } قوماً مقترنين في زمن واحد { هُمْ أشد مِنْهُم بَطْشاً } أي قوة كما قيل أو أخذاً شديداً في كل شيء كعاد وقوم فرعون { فَنَقَّبُواْ فِى البلاد } ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت ، فاتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب . وغيره ، وأنشدوا للحرث بن حلزة :
نقبوا في البلاد من حذر المو *** ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقد نقبت في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمة بالإياب
وروى وقد طوفت ، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال : هو هربوا بلغة اليمن ، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لهدى بن زيد ، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه ، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله ، ومنه قوله تعالى : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ } [ المائدة : 12 ] وأما قولهم : كلب نقيب فهو بمعنى منصوب أي نقبت غلصمته ليضعف صوته ، والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب ، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم ، وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل : اشتد بطشهم فنقبوا وقيل : هي على ما تقدم أيضاً للسببية والعطف على { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا } على أن المراد أخذنا في إعلاكهم فنقبوا في البلاد { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } على إضمار قول هو حال من واو { نقبوا } أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالى أو من الموت ؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القوى على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من الله عز وجل أو من الموت ، وقيل : ضمير { نقبوا } لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم .
وأيد بقراءة ابن عباس . وابن يعمر . وأبي العالية . ونصر بن سيار . وأبي حيوة . والأصمعي عن أبي عمرو { بَطْشاً فَنَقَّبُواْ } على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير والأصل توافق القرائتين ، وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب . وقرأ ابن عباس أيضاً . وعبيد عن أبي عمرو { فَنَقَّبُواْ } بفتح القاف مخففة ، والمعنى كما في المشددة ، وقرئ بكسر القاف خفيفة من النقب محركاً ، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير ، قال الراجز :
اقسم بالله أبو حفص عمر *** ما مسها من نقب ولا دبر
والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم ، ونقب الأقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤل المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أونقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضاً ، وقد يستغني عن التقدير بجعل الإسناد مجازياً .
{ 36-37 } { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
يقول تعالى -مخوفًا للمشركين المكذبين للرسول : - { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : أمما كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشًا أي : قوة وآثارًا في الأرض .
ولهذا قال : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ } أي : بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة ، وغرسوا الأشجار ، وأجروا الأنهار ، وزرعوا ، وعمروا ، ودمروا ، فلما كذبوا رسل الله ، وجحدوا آيات الله ، أخذهم الله بالعقاب الأليم ، والعذاب الشديد ، ف { هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : لا مفر لهم من عذاب الله ، حين نزل بهم ، ولا منقذ ، فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا أموالهم ، ولا أولادهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.