تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الناس

أهداف سورة الناس

( سورة الناس مكية ، وآياتها 6 آيات ، نزلت بعد سورة الفلق )

وهي سورة يلجأ فيها المؤمن إلى الله سبحانه وتعالى ، ويعتصم به من وساوس الشيطان ، الذي يوسوس في صدور الناس خفية وسرا ، وهو أنواع ، منه شياطين الأنس ومنه وشياطين الجن .

مع آيات السورة

1- قل أعوذ بربّ الناس . ألجأ وأتحصن بالله خالق الخلق ، والمتفضل عليهم بالنعم والجود .

2- ملك الناس . فهو ملكهم وآخذ ناصيتهم بيده ، وهو الخالق الرازق ، مرسل الرسل ، ومنزل الشرائع ، والحاكم المتصرف الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون .

3- إله الناس . هو معبودكم بحق ، وملاذهم إذا ضاق الأمر .

من شر الوسواس الخنّاس . أصل الوسوسة : الصوت الخفي ، وقد قيل لأصوات الحلى عند الحركة : وسوسة ، والوسواس الخنّاس . هو الشيطان الذي يوحي بالشر ، ويهمس بالإثم .

والخنوس : الاختفاء والرجوع . والخناس هو الذي من طبعه كثرة الخنوس . أي : نعوذ بالله من وسوسة الشيطان الذي يغري بالمعاصي والمفاسد ، ويلقي بالشرور في قلوب الغافلين ، ويغري بانتهاك الحرمات عن طريق الشهوات .

5- الذي يوسوس في صدور الناس . أي : يجول في الصدور ، ويجري من ابن آدم مجرى الدم ، وخصّ الصدور بالوسوسة لأنها محل القلوب ، والقلوب مجال الخواطر والهواجس ، وإن ذلك الشيطان الذي يجثم على قلب ابن آدم ويتسلط عليه إذا أصابته الغفلة ، هو من الضعف بمكان ، فإذا ذكرت الله خنس ورجع ، وإذا حكّمت عقلك وانتصرت للحق ضعف كيد الشيطان .

قال تعالى : إن كيد الشيطان كان ضعيفا . ( النساء : 76 ) .

وقال تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون . ( الأعراف : 201 ) .

وقال تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكّلون* إنما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون . ( النحل : 99 ، 100 ) .

6- من الجنّة والناس . هذا الوسواس الذي يغري بالشر قسمان :

القسم الأول : الجنة الخفية تخطر للإنسان في صورة خواطر ، توعز بالشر وتغري بالإثم ، وتزين الخطيئة .

القسم الثاني : الناس الذين يتدسّسون إلى الصدور تدسّس الجنة ، ويوسوسون وسوسة الشيطان ، ومنهم : رفيق السوء الذي يجر رفيقه إلى الانحراف ويغريه بالفساد .

وحاشية الشر : التي توسوس لكل ذي سلطان ، حتى تتركه جبارا طاغيا مفسدا ظالما .

والنمّام الواشي : الذي يزين الكلام ويزيفه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح .

وبائع الشهوات : الذي يتدسس من منافذ الغريزة ، في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .

وعشرات من الموسوسين الخنّاسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا .

والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية ، ومن ثم يدلّه الله على عدّته وجنّته وسلاحه في هذه المعركة الرهيبة . والمؤمن يستمد قوته من يقينه بربه ، وثقته بقدرته ، وتحصنه بحماه ، واستعاذته بالله من شر الوسواس الخناس ، الذي يخنس ويضعف أمام قوة الإيمان والاستعانة بالرحمان .

قال تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين . ( الحجر : 42 ) .

إن الصراع بين الخير والشر مستمر في هذه الحياة ، وهناك جنود للرحمان هي المعونة والتثبيت ، وشرح الصدر للإيمان واليقين ، والعزيمة الصادقة ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر . وهناك طريق للشيطان ، يتولى بها على الضعفاء ، وستظل هذه المعركة ما بقيت السماوات والأرض .

يحاول الشيطان أن يضل الناس ويوسوس لهم ، وينصب الله للناس أدلة الهدى والرشاد من العقل والحكمة ، والرسالات السماوية ، وأئمة الحق ، والدعاء والهداة .

وقد ذكر القرآن ذلك في كثير من الآيات .

قال تعالى : يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . ( الأعراف : 27 ) .

وقال تعالى : إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير . ( فاطر : 6 ) .

وقال تعالى : قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم* قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين . ( ص : 79 -83 ) .

وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتّبعوا خطوات الشيطان ومن يتّبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر . . . ( النور : 21 ) .

وقال جل ذكره : إن الشيطان كان للإنسان عدوّا مبينا . ( الإسراء : 53 ) .

وقال سبحانه : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا . ( النساء : 38 ) .

وقال تعالى : ومن يتخذ الشيطان وليّا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا* يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . ( النساء : 119 ، 120 ) .

مقاصد سورة النساء

1- التحصن بجلال الله وقدرته والاعتصام به : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم . ( آل عمران : 101 ) .

2- الشيطان يوجه همّته وجنوده لإغراء بني آدم .

3- رفقاء السوء ودعاة الشر هم أعوان الشيطان .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ قل أعوذ بربّ الناس 1 ملك الناس 2 إله الناس 3 من شر الوسواس الخنّاس 4 الذي يوسوس في صدور الناس 5 من الجنّة والناس 6 )

المفردات :

أعوذ : ألجأ وأسجير .

الرب : هو المربي والموجه والراعي والحامي .

التفسير :

1- قل أعوذ بربّ الناس .

هذه السورة نزلت بعد سورة الفلق ، وقد ورد في الصحيح فضل السور الثلاث : قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، والسور الثلاث لم ير مثلهن ، كما في صحيح مسلم ، أي أنهم التجاء وتحصّن بالله تعالى وقدرته .

والآية الأولى أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن أن يلجأ ويتحصّن ويستعين بربّ بالناس . أي : مربيهم ومالك أمورهم بإفاضة الخير عليهم ودفع ما يضرّهم .

   
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الناس، مكية .

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قال ابن عباس وغيره : هي مدنية ، وقال قتادة : هي مكية .

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا : رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلَ إلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَائِشَةُ ، أَشْعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْته فِيهِ ؟ أَتَانِي مَلَكَانِ ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي ، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِيَّ قَالَ [ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلِي ] : مَا شَأْنُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : مَطْبُوبٌ . قَالَ : وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ : لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ . فَقَالَ : فَبِمَاذَا ؟ قَالَ : فِي مُشْطٍ وَمُشَاقةٍ ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذي أرْوَانَ . فَجَاءَ الْبِئْرَ وَاسْتَخْرَجَهُ » . انْتَهَى الصَّحِيحُ ، زَادَ غَيْرُهُ : «فَوَجَدَ فِيهَا إحْدَى عَشْرَ عُقْدَةً ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ إحْدَى عَشْرَ آيَةً ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، حَتَّى انْحَلَّتْ الْعُقَدُ ، وَقَامَ كَأَنَّمَا أَنْشَطُ مِنْ عِقَالٍ » ..

.........................................................

المسألة الثَّالِثَةُ : رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ ، فَذَكَرَ السُّورَتَيْنِ : الْفَلَقَ ، وَالنَّاسَ » صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَفِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا » . قُلْت لِلزُّهْرِيِّ : كَيْفَ يَنْفُثُ ؟ قَالَ : يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ ، وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : هُمَا مِن الْقُرْآنِ . ...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سورة الناس { قل أعوذ برب الناس } . وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان المعوذتين، والمشقشقتين بتقديم الشين على القافين ، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان المقشقشتين بتقديم القافين على الشينين ، وعنونها ابن عطية في المحرر الوجيز سورة المعوذة الثانية بإضافة سورة إلى المعوذة من إضافة الموصوف إلى الصفة . وعنونهما الترمذي المعوذتين ، وعنونها البخاري في صحيحه سورة قل أعوذ برب الناس .

وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة سورة الناس ، وكذلك أكثر كتب التفسير .

وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مكية ، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مدنية . والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين ، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى .

وقال في الإتقان : أن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم ، وأنها نزلت مع { سورة الفلق } وقد سبقه على ذلك القرطبي والواحدي ، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق ...

أغراضها:

إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإفساد إرشاده ويلقي في نفوس الناس الإعراض عن دعوته . وفي هذا الأمر إيماء إلى الله تعالى معيذه في ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه ، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس . ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم . ومن قابلية التعرض إلى الوسواس ، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى .

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هذه سورةٌ مميزةٌ باعتبارها إحدى السورتين المعوذتين ، ولكنها تختلف عن السورة الأولى بأنها لا تدعو إلى الاستعاذة بالله من العوامل الشرّيرة الخارجية التي تترك تأثيراً سلبياً قاسياً من قبل الآخرين ، أو الأوضاع الكونية المحيطة بالإنسان ؛ بل تدعو إلى الاستعاذة من العوامل الداخلية التي تتحرك في النفس في منطقة الفكر أو الشعور ، من خلال الوسواس الذي قد يكون بشراً ، وقد يكون جنّاً ، بطريقة طبيعية أو غير طبيعية ، بحيث ترهق حياته النفسية التي قد تترك تأثيراتها السلبية على حياته العملية في عمله ، أو في قوله ، أو في علاقاته بالآخرين ، مما قد يدمّر واقعه ، أو يؤدي به إلى القلق والحيرة والضياع ، أو يقوده إلى الارتباك والاهتزاز في خطواته العملية في الحياة ، فيحتاج - بفعل الخوف والذعر من النتائج القاسية الصعبة التي لا يستطيع الخلاص منها - إلى الاستعاذة : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ *إِلَهِ النَّاسِ } ، الذي يملك تدبير أمورهم ، ويملك ذواتهم ووجودهم ، ويستعبدهم من موقع الألوهية المهيمنة على الأمر كله ، { مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } ويختفي ليترك تأثيرات وسوسته تتفاعل في داخله { مِنَ الْجِنَّةِ } الذين لا يستطيع أن يتعرف عليهم { وَالنَّاسِ } الذين لا يشعر بحركة وسوستهم في داخله بشكلٍ واضحٍ ....

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى هذه السّورة شبيه بمحتوى سورة الفلق ، فكلاهما يَدوران حول الاستعاذة بالله من الشرور والآفات ، مع فارق أن سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور ، وهذه السّورة تركز على شرّ الوسواس الخناس .

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ قل أعوذ برب الناس } أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ برب الناس . ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قل يا محمد : أستجير { بِرَبّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ } ، وهو ملك جميع الخلق : إنسِهم وجنهم ، وغير ذلك ، إعلاما منه بذلك مَنْ كان يعظّم الناس تعظيم المؤمنين ربّهم ، أنه مَلِكُ من يعظمه ، وأن ذلك في مُلكه وسلطانه ، تجري عليه قُدرته ، وأنه أولى بالتعظيم ، وأحقّ بالتعبد له ممن يعظمه ، ويتعبّد له ، من غيره من الناس . ...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{ قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ} وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربّاً لجميع الخلق لأمرين: أحدهما : لأن الناس معظمون ، فأعلم بذكرهم أنه رب لهم ، وإن عظموا .

الثاني : لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم ، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم . ...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أعتصِم بربِّ الناسِ خالقِهِم وسيَّدِهم . ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت : لم قيل { بِرَبّ الناس } مضافاً إليهم خاصة ؟ قلت : لأنّ الاستعاذة وقعت من شرّ الموسوس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم ، وهو إلههم ومعبودهم ، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص ، وهو الوسواس ، وهو أخص من مطلق الحاسد ، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة ، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها ، وهي من الجن أمكن وأضر ، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب ، فقد تضمنت السورة كالفلق استعاذة ومستعاذاً به ومستعاذاً منه ، وأمراً بإيجاد ذلك ، فالأمر : { قل } ، والاسعتاذة { أعوذ } ، والمستعاذ به هو الله سبحانه وتعالى ، لكن لما كانت صفة الربوبية من صفات كماله -سبحانه- أليق بالحماية والإعانة والرعاية والخلق والتدبير والتربية والإصلاح ، المتضمن للقدرة التامة ، والرحمة الواسعة ، والإحسان الشامل ، والعلم الكامل ، قال تعالى : { برب الناس } أي أعتصم به ، أي أسأله أن يكون عاصماً لي من العدو أن يوقعني في المهالك ....

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

( والرب ) : رب الناس وغيرهم ؛ بل رب العالمين ، وإنما خص الناس بالذكر :

- لأنهم هم هدفه ، ومرمى وسوسته ، ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه ، ولأن عالم التكليف أشرف ، فإليهم يوجه الخطاب ، وإليهم يساق التحذير . وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما ؛ فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم ، لتثبيت سنة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم . ...

- ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربوبين ، وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال ....

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

الاستعاذة في هذه السورة برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس . والمستعاذ منه هو : شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس . والاستعاذة بالرب ، الملك ، الإله ، تستحضر من صفات الله - سبحانه - ما به يدفع الشر عامة ، وشر الوسواس الخناس خاصة . فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وعُرِّف { رب } بإضافته إلى { الناس } دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيَضِلُّون ويُضلون ، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس ، فناسب أن يُستحضر المستعاذُ إليه بعنوان أنه رب من يُلْقون الشر ومن يُلْقَى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمَولى العبد : يا مولَى فلان كُف عني عبدك . ... وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيباً مدرَّجاً فإن الله خالقهم ، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم ، ثم زيد بياناً بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضاً وحاكمية بعضهم في بعض . وفي هذا الترتيب إشعار أيضاً بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلم بادئ ذي بدء بأن له رباً يسبب ما يشعُر به من وجود نفسه ، ونعمة تركيبه ، ثم يتغلغل في النظر فيَشعر بأن ربه هو المَلِكُ الحقُّ الغني عن الخلق ، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم . ...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

وهي مثل سابقتها في معرض تعليم المسلمين الاستعاذة بالله وحده ، ونبذ ما سواه من كل وسوسة ظاهرة وخفية ، من جن وإنس . والمتبادر أن المقصود من وسوسة الإنس هو ما يحاوله ويقوم به ذوو الأخلاق السيئة ، والسرائر الفاسدة ، من إغراء وإغواء ، وإيحاء ، وتلقين بالشرور والمنكرات والبغي ، وإقامة العثرات في سبيل الخير والصلاح ، والحق والبر . أما وسوسة الجنة فالمقصود منها كما هو المتبادر أيضا وسوسة تلك العناصر الخفية التي توسوس في صدور الناس ، وتغريهم بالشر والفساد والمنكرات والبغي والكفر ، وعبادة غير الله ، وجحود نعمته . وتزينه لهم ، وتمنعهم عن الإيمان والخير والمعروف والبر ، والتي سماها القرآن بأسماء إبليس وجنوده وذريته وقبيله والشيطان والشياطين .... وروح الآيات تلهم أن السامعين يعرفون ما يفعله الوسواس الخناس من الجنة والناس . وقد تضمنت السورة أهدافا جليلة ، وتلقينات بليغة . فالوساوس سواء أكانت تلك التي تأتي في أعماق النفس وعناصر الشر الخفية ، أم تلك التي تأتي عن طريق وألسنة الشر وأعوان السوء من البشر ، من شأنها أن تثير مختلف الهواجس ونوازع الشر والإثم ، وتسبب نتائج خطيرة في علاقات الناس ببعضهم ... فالأمر بالاستعاذة بالله منها ومن شر مسببيها يتضمن التحذير والتنبيه والتنديد من جهة ، والدعوة إلى الازورار عن الموسوسين ونبذهم من جهة ، وتلقين تغليب نوازع الخير وإقامة الناس علاقاتهم فيما بينهم على أساس الروح الطيبة ، والنية الحسنة ، وحسن الظن ....

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

فها هنا توجيه من الله للرسول والمؤمنين إلى الاعتصام بحبل الله ، والالتجاء إليه ، والاحتماء بما له من صفات الربوبية والملك والألوهية ... قال ابن عباس : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس . وإذا ذكر الله خنس " ، و " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ، كما ورد في الحديث الشريف .

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يلاحظ أن الآيات ركزت على ثلاث من صفات الله سبحانه هي( الربوبية والمالكية والألوهية ) ، وترتبط كلها ارتباطاً مباشراً بتربية الإِنسان ونجاته من براثن الموسوسين . المقصود من الاستعاذة بالله ليس طبعاً ترديد الاستعاذة باللسان فقط ؛ بل على الإِنسان أن يلجأ إليه جلَّ وعلا في الفكر والعقيدة والعمل أيضاً ، مبتعداً عن الطرق الشيطانية ، والأفكار المضللة الشيطانية ، والمناهج والمسالك الشيطانية ، والمجالس والمحافل الشيطانية ، ومتجهاً على طريق المسيرة الرحمانية ، وإلاّ فإن الإِنسان الذي أرخى عنان نفسه تجاه وساوس الشيطان ، لا تكفيه قراءة هذه السّورة ، ولا تكرار ألفاظ الاستعاذة باللسان . على المستعيذ الحقيقي أن يقرن قوله { ربّ النّاس } بالاعتراف بربوبية الله تعالى ، وبالانضواء تحت تربيته ؛ وأن يقرن قوله { ملك النّاس } بالخضوع لمالكيته ، وبالطاعة التامة لأوامره ؛ وأن يقرن قوله : { إله النّاس } بالسير على طريق عبوديته ، وتجنب عبادة غيره . ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاث ؛ وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الإِيمان ، فهو دون شك سيكون في مأمن من شرّ الموسوسين . هذه الأوصاف الثلاثة تشكل في الواقع ثلاثة دروس تربوية هامّة . . . ثلاث سبل وقاية . . . وثلاث طرق نجاة من شرّ الموسوسين ، إنّها تؤمن على مسيرة الإِنسان من الأخطار .

   
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ} (1)

لما جاءت سورة الفلق للاستعاذة من شر ما خلق من جميع المضار البدنية وغيرها العامة للإنسان وغيره ، وذلك هو جملة الشر الموجود في جميع الأكوان والأزمان ، ثم وقع فيها التخصيص بشرور بأعيانها من الفاسق والساحر والحاسد ، فكانت الاستعاذة فيها عامة للمصائب الخارجة التي ترجع إلى ظلم الغير ، والمعايب الداخلة التي ترجع إلى ظلم النفس ، ولكنها في المصائب أظهر ، وختمت بالحسد فعلم أنه أضر المصائب ، وكان أصل ما بين الجن والإنس من العداوة الحسد ، جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص ، وهو الوسواس ، وهو أخص من مطلق الحاسد ، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة ، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها ، وهي من الجن أمكن وأضر ، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب ، فقد تضمنت السورة كالفلق استعاذة ومستعاذاً به ومستعاذاً منه ، وأمراً بإيجاد ذلك ، فالأمر : { قل } ، والاسعتاذة { أعوذ } ، والمستعاذ به هو الله سبحانه وتعالى ، لكن لما كانت صفة الربوبية من صفات كماله -سبحانه- أليق بالحماية والإعانة والرعاية والخلق والتدبير والتربية والإصلاح ، المتضمن للقدرة التامة ، والرحمة الواسعة ، والإحسان الشامل ، والعلم الكامل ، قال تعالى : { برب الناس * } أي أعتصم به ، أي أسأله أن يكون عاصماً لي من العدو أن يوقعني في المهالك .

قال الملوي : والرب من له ملك الرق ، وجلب الخيرات من السماء والأرض ، وإبقاؤها ، ودفع الشرور ورفعها ، والنقل من النقص إلى الكمال ، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب .

وخص الإضافة بالمزلزلين المضطربين في الأبدان والأديان من الإنس والجان لخصوص المستعاذ منه ، وهو الأضرار التي تعرض للنفوس العاقلة وتخصها ، بخلاف ما في الفلق ، فإنه المضار البدنية التي تعم الإنسان وغيره .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : وجه تأخرها عن شقيقتها عموم الأولى ، وخصوص الثانية ، ألا ترى عموم قوله { من شر ما خلق } ، وإبهام { ما } ، وتنكير { غاسق } ، و { حاسد } ، والعهد فيما استعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته ، فبدأ بالعموم ، ثم أتبع بالخصوص ، ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه ، وأوفى بالمقصود ، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ، ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه وتعالى { بسم الله الرحمن الرحيم } في معنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد لا في عموم الصفة الأولى ، وكونها للمبالغة ، وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ، ولذلك نظائر . انتهى .