39-40-41- { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } .
أي : وجاء في صحف إبراهيم وموسى ، عليهما السلام ، أن الإنسان لا يجني إلا ثمرة ما عمل ، فهو لا يعاقب على ذنب ارتكبه غيره ، ولا يكاف4أ إلا على عمل قد قام به ، وسعي قد سعاه .
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم أن ليس للإنسان إلا سعيه ! ؟ فلا يثاب بعمل غيره ، كما لا يؤاخذ بذنب غيره . أما في شريعتنا فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع انتفاع الإنسان بعمل غيره ، ونقل العلامة الجمل في حاشيته على الجلالين بحثا نفيسا لشيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن تميمة ، ننقل خلاصته لمزيد فائدته . قال : " من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع ؛ وذلك باطل من وجوه : أحدها – أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره . ثانيها – أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ، ثم لأهل الجنة في دخولها . ثالثها – يشفع لأهل الكبائر في الخروج من النار ؛ وهذا انتفاع بسعي الغير . رابعها – أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض ؛ وذلك منفعة بعمل الغير . خامسها – أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط – أي من المؤمنين – بمحض رحمته ؛ وهذا انتفاع بغير عملهم . سادسها – أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ؛ وذلك انتفاع بمحض عمل الغير . سابعها – قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين : " وكان أبوهما صالحا " {[333]} ؛ فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما . ثامنها – أن الميت ينتفع بالصدقة عنه
وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ؛ وهو من عمل الغير . تاسعها – أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة ؛ وهو انتفاع بعمل الغير ، عاشرها – أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة ؛ وهو انتفاع بعمل الغير . حادي عشرها – المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو من عمل الغير . ثاني عشرها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده : ( ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه ) ؛ فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير . ثالث عشرها – أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض ؛ وذلك انتفاع بعمل الغير . رابع عشرها – أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه ؛ وهذا انتفاع بعمل الغير . خامس عشرها – أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات – كما جاء في الأثر - ؛ وهذا انتفاع بعمل الغير . سادس عشرها – أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ؛ وهو لم يكن منهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ؛ فقد انتفع بعمل غيره . سابع عشرها – الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحي عليه ؛ وهو عمل غيره . ثامن عشرها – أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد ؛ وهو انتفاع للبعض بالبعض . تاسع عشرها – أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " {[334]} . وقال تعالى : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " {[335]} فقد رفع الله تعالى عن بعض الناس بسبب بعض ؛ وذلك انتفاع بعمل الغير . عشروها – أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ؛ فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها . ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله مالا يكاد يحصى ؛ فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ! ؟ " اه . فإما أن يقال : إن الآية عامة قد خصصت بأمور كثيرة مما ذكر . أو يقال : إنها مخصوصة بقوم موسى وإبراهيم ؛ لأنها حكاية عما في صحفهما . وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي وما سعى لها غيرها ؛ بدليل ما ذكر ، وبدليل قوله تعالى : " ألحقنا بهم ذريتهم " {[336]} حين أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء . أو يقال : إن سعي غيره لما لم ينفعه
إلا مبنيا على سعي نفسه وهو بكونه مؤمنا كان كأنه سعى نفسه . أو يقال : إن المراد بالإنسان الكافر . والمعنى : أنه ليس له من الجزاء إلا ما عمل هو ؛ فيثاب عليه في الدنيا بسعة الرزق والمعافاة في البدن ونحو ذلك ، حتى لا يبقى له في الآخرة منها نصيب . أو يقال : " ليس للإنسان إلا ما سعى " أي عدلا ؛ فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله من فضله ما يشاء . وفي الحديث الصحيح : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث – وفيه - : أو ولد صالح يدعو له ) . وهذا كله تفضل منه تعالى ، كما أن تضعيف الحسنات فضل منه تعالى . هذا وقد نقل الخازن في تفسيره الأحاديث الصحيحة الواردة في الحج عن الغير ، ثم قال : وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصل ثوابها إليه ؛ وهو إجماع العلماء . وكذلك أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين ؛ للنصوص الواردة في ذلك . ويصح الحج عن الميت حجة الإسلام . وكذا لو أوصى بحج تطوع على الأصح عند الشافعي . واختلف العلماء في الصوم عنه ، والراجح جوازه عنه . والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصل ثوابها للميت . وذهب أحمد وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل ؛ فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه : اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان ، ونحو ذلك . وأما الصلوات وسائر التطوعات فلا يصله ثوابها عند الشافعي والجمهور . وقال أحمد : يصله ثواب الجميع . ا . ه .
وقد أشبعنا الكلام في هذا المقام في فتوى الأربعين . والله أعلم .
قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي : عمل ، كقوله : { إن سعيكم لشتى }( الليل-4 ) وهذا أيضاً في { صحف إبراهيم وموسى }( الأعلى-19 ) . وقال ابن عباس : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة ، بقوله : { ألحقنا بهم ذريتهم }( الطور-21 ) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء . وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم ، لما روي أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : " نعم ولك أجر " . وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم . وقال الربيع بن أنس : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) يعني الكافر ، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له . قيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو ، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير . ويروى أن عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه ، فلما مات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفنه فيه ، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأن ليس للإنسان} في الآخرة {إلا ما سعى} يعني إلا ما عمل في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "فإن من قوله: "ألاّ تَزِرُ" على التأويل الذي تأوّلناه في موضع خفض ردّا على «ما» التي في قوله "أمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى" يعني بقوله: "ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" غيرها، بل كل آثمة فإنما إثمها عليها...
وإنما عُنِي بقوله: "ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" الذي ضَمِن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، يقول: ألم يُخْبَرْ قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها "وأنْ لَيْسَ للإنْسانِ إلاّ ما سَعَى" يقول جلّ ثناؤه: أوَ لم يُنَبأ أنه لا يُجازى عامل إلاّ بعمله، خيرا كان ذلك أو شرّا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن يكون قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} أي ليس على الإنسان إلا ما سعى، لأنه، جل، وعلا، يثيب، ويعطي الزيادة على ما سعى بفضله وكرمه كقوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] ونحو الصغار الذين لا سعي لهم قد يعطيهم الثواب بفضله. وأما جواز السيئة فإنه لا يكون إلا بالمثل كقوله تعالى: {فلا يُجزى إلا مثلها} [الأنعام: 160] وجائز أن يكون: له بمعنى عليه في اللغة كقوله عز وجل: {إن أحسنتم أحسنتُم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] أي فعليها. ويحتمل أن تكون الآية في أولئك الكافرين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ألاّ تزِر وازرة وِزر أخرى} يقول: ليس لذلك الإنسان إلا ما سعى...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: إن سعى في الخير يلق الخير، وإن سعى في الشر يلق الشر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ مَا سعى} إلا سعيه. فإن قلت: أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت، والحج عنه، وله الإضعاف؟ قلت: فيه جوابان؛
أحدهما: أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً وكذلك الإضعاف كان سعى غيره كأنه سعى نفسه، لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه.
والثاني؛ أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها، والدليل حديث سعد بن عبادة قال: يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: نعم. وسأل عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] فقال ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله، فقبل عبد الله رأس الحسين. وقال الجمهور: الآية محكمة. والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو في اللام من قوله: {للإنسان} فإذا حققت الشيء الذي هو حق الإنسان يقول فيه لي كذا لم يجده إلا سعيه، وما بعد من رحمة ثم شفاعة أو رعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو تغمد بفضل ورحمة دون هذا كله فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة. واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن ولا مال. وفرق بعض العلماء بين البدن والمال، وهي عندي كلها فضائل للعامل وحسنات تذكر للمعمول عنه. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً بالصدقة عن أمه. والسعي: التكسب.
{إلا ما سعى} معناه العمل يقال: سعى فلان أي عمل، ولو كان كما ذكرتم لقال: إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعا: لا بد من زيادة فإن قوله تعالى: {ليس للإنسان إلا ما سعى} ليس المراد منه أن له عين ما سعى، بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى، أو إلا أجر ما سعى، أو يقال: بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة {ما سعى} مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}.
المسألة الثانية: أن {ما} خبرية أو مصدرية؟ نقول: كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى: {وأن سعيه سوف يرى} أي سوف يرى المسعى، والمصدر للمفعول يجيء كثيرا يقال: هذا خلق الله أي مخلوقه.
المسألة الثالثة: المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل، نقول: المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى: {للإنسان} فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول: هذا له، وهذا عليه، ويشهد له ويشهد عليه في المنافع والمضار، وللقائل الأول أن يقول: بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور، وأيضا يدل عليه قوله تعالى: {ثم يجزيه الجزاء الأوفى} والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية.
المسألة الرابعة: {إلا ما سعى} بصيغة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال: ليس للإنسان إلا ما يسعى، تقول النفس إني أصلي غدا كذا ركعة وأتصدق بكذا درهما، ثم يجعل مثبتا في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه، فقال: ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه، وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتعريف {الإِنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى: لا يختص به إلا ما سعاه.والمراد هنا عمل الخير بقرينة ذكر لام الاختصاص وبأن جعل مقابلاً لقوله: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم: 38]. والمعنى: لا تحصل لأحد فائدة عَمل إلا ما عمله بنفسه، فلا يكون له عملُ غيره، ولام الاختصاص يرجح أن المراد ما سَعاه من الأعمال الصالحة، وبذلك يكون ذكر هذا تتميماً لمعنى {ألا تزر وازرة وزر أخرى}، احتراساً من أن يخطُر بالبال أن المدفوع عن غير فاعله هو الوزر، وإنّ الخير ينال غيرَ فاعله. ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه: {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89]. ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه: {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض، إلاّ أنّه يستعمل غالباً في الجدّ والمثابرة، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواءً كان ذلك في الخير أو الشرّ! والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول: وان ليس للإنسان إلاّ ما أدّى من عمل.. بل يقول: إلاّ ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه، فالعبرة بالنيّة، فإذا نوى خيراً أعطاه الله ثوابه، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.
قوله تعالى : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم{[14422]} " [ الطور : 21 ] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ، يدل على ذلك قوله تعالى : " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا{[14423]} " [ النساء : 11 ] . وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد . ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت ، إلا أنه قال : إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه . وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه . وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي توفيت أفأتصدق عنها ؟ قال : ( نعم ) قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : ( سقي الماء ) . وقد مضى جميع هذا مستوفى في " البقرة{[14424]} " و " آل عمران{[14425]} " و " الأعراف{[14426]} " . وقد قيل : إن الله عز وجل إنما قال : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب{[14427]} للإنسان إلا ما سعى ، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له ، كما يتفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل . وقال الربيع بن أنس : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره .
قلت : وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره ، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها ، وليس في الصدقة اختلاف ، كما في صدر كتاب مسلم عن عبدالله بن المبارك . وفي الصحيح : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ) وفيه ( أو ولد صالح يدعو له ) وهذا كله تفضل من الله عز وجل ، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه ، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة ، كما قيل لأبي هريرة : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) فقال سمعته يقول : ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) فهذا تفضل . وطريق العدل " أن ليس للإنسان إلا ما سعى " .
قلت : ويحتمل أن يكون قوله : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " خاص في السيئة ، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ) . وقال أبو بكر الوراق : " إلا ما سعى " إلا ما نوى ، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم : ( يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم ) .
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } السعي هنا بمعنى : العمل ، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره ، وهي حجة لمالك في قوله لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام ، واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعتق يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره ، ويصل نفعها إلى من فعلت عنه ، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { ألحقنا بهم ذريتهم } [ الطور : 21 ] والصحيح أنها محكمة لأنها خبر والأخبار لا تنسخ وفي تأويلها ثلاثة أقوال :
الأول : أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا فلا يلزم في شريعتنا .
الثاني : أن للإنسان ما عمل بحق وله ما عمل له غيره بهبة العامل له فجاءت الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها .
الثالث : أنها في الذنوب وقد اتفق أنه لا يحتمل أحد ذنب أحد ، ويدل على هذا قوله بعدها { ألا تزر وازرة وزر أخرى } وكأنه يقول : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يؤاخذ إلا بذنب نفسه .
ولما نفى أن يضره إثم غيره نفى أن ينفعه سعي غيره فقال : { وأن ليس للإنسان } كائناً من{[61740]} كان { إلا ما سعى * } فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى ، ودعاء المؤمنين للمؤمن سعيه بمواددته لهم ولو بموافقته لهم في الدين وكذا الحج عنه والصدقة ونحوهما ، وأما الولد فواضح في ذلك ، وأما ما كان لسبب العلم ونحوهما فكذلك ، وتضحية للنبي صلى الله عليه وسلم في عزامته أصل كبير في ذلك ، فإن من تبعه فقد وادده ، وهذا أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها .