ينتصرون : ينتقمون بمثل ما عوقبوا به .
39- { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } .
كانوا ينفرون من الضيم والذل والاستكانة .
قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فيجترئ عليهم الفساق .
وقد ورد عن عمر رضي الله عنه : من استغضب ولم يغضب فهو حمار .
والمؤمن كريم على نفسه وعلى ربه ، حيث قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . . . } ( المنافقون : 8 ) .
فالإنسان المتزن يعرف متى يصفح ، ومتى ينتصر وينتقم ، فهو أمام الذليل الضعيف يعفو عفو القادر ، وأما الباغي المعتدي ينتصر وينتقم ، كما يشير إلى ذلك قول الشاعر :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
وعند تفسير ابن كثير وغيره من المفسرين لهذه الآية قالوا : أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين ، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم ، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا ، والأمثلة الموضحة كثيرة ، منها : عفو يوسف عليه السلام عن إخوته ، وعفو النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد فتحها ، وعفا صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم ، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام منهم ، وعفا عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به ، حين أخذ السيف النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم ، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتا فانتهره ، فوقع السيف من يد غورث بن الحارث ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل ، وعفا عنه ، وغير ذلك كثير . اه .
وإذا عفوت فقادر ومقدر *** لا يستهين بعفوك الضعفاء
وإذا خطبت فللمنابر هزة *** تعرو الندى وللقلوب بكاء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا مشيت إلى العدا فغضنفر *** وإذا غضبت فإنك النكباء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء
قال الزمخشري عند تفسيره قوله تعالى : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } .
فإن قلت : أهم محمودون على الانتصار ؟ قلت : نعم ، لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به ، فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم ، أو رد على سفيه محاماة عن عرضه وردعا له ، فهو مطيع ، وكل مطيع محمود . اه .
{ والذين إذا أصابهم البغي } قال القاضي أبو بكر بن العربي : " ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح ، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح ؛ فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر . واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين : إحداهما – أن يكون الباغي معلنا بالفجور ، مؤذيا للصغير والكبير ؛ فيكون الانتقام منه أفضل . وفي مثله قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنسفهم فتجرئ عليهم الفساق . والثانية – أن يقع ذلك ممن لم يعرف بالزلة ويسأل المغفرة ؛ لعفو ههنا أفضل . وفي مثله نزل : " وأن تعفو أقرب للتقوى " {[308]} وقوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " {[309]} . وقوله : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " {[310]} . ومثله ما ذكر الكيا الصبري في أحكامه ؛ إلا أنه عند الانتصار تراعى المماثلة لقوله تعالى : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " ، وقوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " {[311]} .
ولما كان في العقوبة مصلحة ومفسدة فندب سبحانه إلى المغفرة تقديماً لدرء المفسدة لأن الإنسان لعدم علمه بالقلوب لا يصح له بوجه أن يعاقب بمجرد الغضب لأنه قد يخطئ فيعاقب من أغضبه ، وهو شريف الذات كريم الطبع على الهمة أبي النفس ، ما وقع منه الذنب الذي أغضب إلا خطأ معفواً عنه أو كذب عليه فيه فيربي في نفسه أخته تفسد ذات البين فيجر إلى خراب كبير ، وكانت إدامة الغفر جالبة للفساد مجرئة على العناد ، وكان البغي هو التمادي في السوء محققاً لقصد الذنب مجوزاً للإقدام على الانتقام ، وكان الانتصار من الفجار ربما أحوج مع قوة الجنان إلى إنفاق المال ، عقب الإنفاق بمدح الانتصار بقوله : { والذين } وذكر أداة التحقق إشارة إلى أن شرطها لا بد من وقوعه بالفعل أو بالقوة فقال ناصباً بفعل الانتصار مقدماً لما من شأن النفس الاهتمام بدفعه لعدم صبرها عليه : { إذا أصابهم } أي وقع بهم وأثر فيهم { البغي } وهو التمادي على الرمي بالشر { هم } أي بأنفسهم خاصة لما لهم من قوة الجنان والأركان المعلمة بأن ما تقدم من غفرانهم ما كان إلا لعلو شأنهم لا لهوانهم { ينتصرون * } أي يوقعون بالعلاج بما أعطاهم الله من سعة العقل وشدة البطش وقوة القلب النصر لأنفسهم في محله على ما ينبغي من زجر الباغي عن معاودتهم وعن الاجتراء على غيرهم مكررين لذلك كلما كرر لهم فيكون ذلك من إصلاح ذات البين ، ليسوا بعاجزين ولا في أمر دينهم متوانين ، والتعبير في هذه الأفعال بالإسناد إلى الجمع إشارة إلى أنه لا يكون تمام التمكن الرادع إلا مع الاجتماع ، ومن كان فيها مفرداً كان همه طويلاً وبثه جليلاً ، قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.