يقرض الله : ينفق ماله في سبيله رجاء ثوابه .
11- { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } .
هذا استفهام للحث والتحضيض على الإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر وجوه الخير ، فالآية عامة في كل خير ، أي : من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يعوّضه الله أضعافا كثيرة إلى سبعمائة ضعف ، مع الكرامة والبشرى بالجنة .
وقد كان للسابقين إلى الإسلام النصيب الأوفى من هذا القرض ، وذلك الجزاء الكريم .
أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبّوا أصحابي ، فو الذي نفس محمد بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه " 10 .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ . . } . قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : إني أقرضت ربّي حائطي ( بستاني ) ، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال : فجاء أبو الدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت لبيك ، اخرجي فقد أقرضته ربّي عز وجل .
وفي رواية أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح ، ونقلت منه متاعها وصبيانها .
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كم من عذق رداح ، في الجنة لأبي الدحداح " .
وجاء في مختصر تفسير ابن كثير :
{ يقرض الله قرضا حسنا } حث من الله تعالى على الإنفاق في سبيله ، مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه . والقرض الحسن : الإنفاق من المال الحلال ، مع صدق النية وطيب النفس ، وابتغاء وجه الله تعالى به ؛ دون رياء أو سمعة ، أو من أو أذى ، ومع تحرى أكرم الأموال وأفضل الجهات . والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : قد أقرض ؛ وسمى قرضا لأن القرض إخراج المال لاسترداد البدل . والله تعالى يبدله أضعافا .
مَن ذا الذي يُقرض اللهَ : من ذا الذي ينفق في سبيل الله .
ثم نَدَبَ إلى الإنفاق بأسلوبٍ رقيق جميلٍ حيثُ جعل المنفِقَ في سبيل الله كالذي يُقْرِض الله ، والله غنيٌّ عن العالمين . فقال :
{ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }
هل هناك أجملُ من هذا التعبير ! مَن هذا الذي ينفِق أمواله في سبيل الله محتسباً أجره عند ربه ، فيضاعِف الله له ذلك القَرض ، إذ يجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة ، وفوق ذلك له جزاءٌ كريم عند ربّه ، وضيافةٌ كريمة في جنة المأوى .
قرأ ابن كثير : فيضعّفُه بتشديد العين وضم الفاء . وقرأ ابن عامر مثله : فيضعّفَه بالتشديد ولكن ينصب الفاء . والباقون : فيضاعفَه بالألف ونصب الفاء .
قوله تعالى : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ندب إلى الإنفاق في سبيل الله . وقد مضى في " البقرة{[14702]} " القول فيه . والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : قد أقرض ، كما قال{[14703]} :
وإذا جُوزِيتَ قرضا فاجزه *** إنما يجزي الفتى ليس الجَمَل
وسمي قرضا ؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل . أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدل الله بالأضعاف الكثيرة . قال الكلبي : " قرضا " أي صدقة " حسنا " أي محتسبا من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى . " فيضاعفه له " ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف . وقيل : القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ، رواه سفيان عن أبي حيان{[14704]} . وقال زيد بن أسلم : هو النفقة على الأهل . الحسن : التطوع بالعبادات . وقيل : إنه عمل الخير ، والعرب تقول : لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء . القشيري : والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس ، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة ، وأن يكون من الحلال . ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه ، لقوله تعالى : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون{[14705]} " [ البقرة : 267 ] وأن يتصدق في حال يأمل الحياة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال : ( أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) وأن يخفي صدقته ، لقوله تعالى : " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم{[14706]} " [ البقرة : 271 ] وألا يمن ، لقوله تعالى : " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " [ البقرة : 264 ] وأن يستحقر كثير ما يعطي ؛ لأن الدنيا كلها قليلة ، وأن يكون من أحب أمواله ، لقوله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون{[14707]} " [ آل عمران : 92 ] وأن يكون كثيرا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) . " فيضاعفه له " وقرأ ابن كثير وابن عامر " فيضعفه " بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء . وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة " فيضاعفه " بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء . ورفع الباقون عطفا على " يقرض " . وبالنصب جوابا على الاستفهام . وقد مضى في " البقرة " القول في هذا مستوفى . " وله أجر كريم " يعني الجنة .
ولما فضل السابقين بالإنفاق ، ووعد {[62437]}بالحسنى اللاحقين{[62438]} بحسن الاتباع ، وأشار إلى{[62439]} أنه ربما ألحقهم ببعضهم بصفاء الإخلاص فتوفرت الدواعي على البذل ، أثمر {[62440]}ذلك قوله{[62441]} مسمياً الصدقة التي{[62442]} صورتها صورة{[62443]} إخراج من غير عوض باسم القرض الذي هو إخراج بعوض ترغيباً فيها لما أعد عليها من الجزاء المحقق فكيف إذا كان مضاعفاً : { من } وأكد بالإشارة بقوله : { ذا } لأجل{[62444]} ما للنفوس من الشح { الذي يقرض الله } أي يعطي{[62445]} الذي له جميع صفات الجلال والإكرام بإعطاء المستحق لأجله عطاء من ماله هو على صورة القرض لرجائه الثواب { قرضاً حسناً } أي طيباً خالصاً فيه متحرياً به أفضل الوجوه طيبة به النفس من غير من ولا كدر بتسويف ونحوه .
ولما كان ما يعطي الله المنفق من الجزاء مسبباً عن إنفاقه ، ربطه بالفاء فقال عطفاً على { يقرض } : { فيضاعفه له } مرغباً فيه بجعله مبالغاً بالتضعيف أولاً وجعله من باب المفاعلة ثانياً ، وكذا التفضيل في قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب{[62446]} { فيضعفه } وقرأه ابن عامر ويعقوب{[62447]} بالنصب جواباً للاستفهام تأكيداً للربط والتسبيب . ولما كانت المضاعفة{[62448]} منه سبحانه لا يعلم كنهها إلا هو قال : { وله } أي المقرض من بعد ما تعقلونه من المضاعفة زيادة على ذلك { أجر } لا يعلم قدره إلا الله ، وهو معنى وصفه بقوله : { كريم * } أي حسن طيب زاك نام .