( سورة التغابن مدنية وآياتها 18 آية ، نزلت بعد سورة التحريم )
والتغابن بمعنى الغبن ، لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار ويأخذون أماكنهم في الجنةi . أي ينتصر أهل الجنة في ذلك اليوم ، لأنهم أخذوا حقهم مضاعفا .
وقال جار الله : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضا ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلوها لو كانوا أشقياء ، كما ورد في الحديث : ii
" ما من عبد يدخل الجنة إلا يرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا يرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة " . iii
قال النيسابوري : يجوز أن يُفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم ، وحمل الظالم خطايا المظلوم ، وإن صح مجيء التغابن بمعنى الغبن فذلك واضح في حق كل مقصر صرف شيئا من استعداده الفطري في غير ما أعطي لأجله .
وقال الشيخ مخلوف : يوم التغابن يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان . iv
في الآيات ( 1-4 ) نجد آيات تذكر جلال الخالق المبدع وتصور قدرة الله القدير :
1- فهو سبحانه مالك الملك وصاحب الفضل والنعم ، وهو القادر القاهر المتصف بصفات الجلال والكمال ، وقدرة الله لا حدود لها فهي محيطة بكل شيء ، مهيمنة على كل شيء ، مدبرة لكل شيء ، حافظة لكل شيء ، لا يفتر عنها شيء ، سواء في ذلك الكبير والصغير ، والجليل والحقير .
والمؤمن يدرك آثار هذه القدرة ويشعر بجلال الله وعظمته ، وعلمه ووقايته ، وقهره وجبروته ، ورحمته وفضله ، وقربه منه في كل حال .
2- وقد خلق الله الإنسان ومنحه الإرادة والاختيار ، وميّزه بذلك على جميع الموجودات ، وأرسل إليه الرسل ، وأنزل إليه الكتب ليساعده على الإيمان ، ومن الناس من يهديه الله للإيمان ، ومنهم من يختار الكفر والجحود .
3- وقد أبدع الله خلق السماء فرفعها ، وزينها بالنجوم ، وخلق الأرض وأودع فيها الأقوات ، والجبال والبحار والأنهار ، وخلق الإنسان في أبدع صورة وأحسن تركيبه ، حيث يجتمع فيه الجمال إلى الكمال ، ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل ، ، ولكن الله متّع الجميع بكل ما يحتاجون إليه من الآلات الجسدية ، ومن المواهب المعنوية ، ومن الخصائص التي يتفوق بها الإنسان على سائر الأحياء .
4- وقد أحاط علم الله بالسماء والأرض ، والسر والعلن ، والمؤمن يحس بإحاطة علم الله به ، ويشعر أنه مكشوف كله لعين الله ، فليس له سر يخفى عليه ، وليست له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور .
وبهذه المعاني يستقر الإيمان في القلب ، ويستقر تعظيم الله والشعور بجلاله ورقابته .
أما الآيتان ( 5-6 ) فتُذكران بما أصاب المكذبين للرسل من الهلاك والدمار ، لقد جاءتهم الرسل بالآيات الواضحات ، فاستكثروا أن يكون النبي إنسانا من البشر ، وأعرضوا عن الهدى فأعرض الله عنهم ، وهو سبحانه غني عن عباده ، محمود على نعمائه .
والآيات ( 7-13 ) تستعرض شبهة الكافرين في البعث وإنكارهم له ، وترد عليهم بأن البعث حقيقة مؤكدة ، ويتبع البعث الحساب والجزاء ، والإيمان بالله ورسوله هو سبيل النجاة والهداية ، فسيجمع الله المؤمنين والكفار يوم التغابن .
والتغابن مفاعلة من الغبن ، وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم ، وحرمان الكافرين من كل شيء منه ، ثم صيرورتهم إلى الجحيم ، فهما نصيبان متباعدان ، وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء ، وليغبن كل فريق مسابقه ، ففاز فيه المؤمنون وهُزم فيه الكافرون .
إن من آمن وعمل صالحا له جزاؤه في جنة الخلد والفوز العظيم ، ومن كفر بالله وكذب بآياته له عقابه وخلوده في النار وبئس المصير .
وإن من أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر ، وأن ترى الله مصدر كل شيء ، وأن تفوض إليه الأمر ، وأن تحني رأسك إجلالا لعظمته وتسليما لقضائه وقدره .
وطاعة الله وطاعة الرسول طريق الفلاح ، والإعراض عن طاعتهما نذير بالعقاب ، وليس هناك في الكون إلا إله واحد ، يتوكل عليه المؤمن ويتيقن بوجوده ، ويوحده ويعظمه ، وذلك أساس العقيدة الإسلامية .
قال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } . ( التغابن : 13 ) .
تتجه الآيات الأخيرة من السورة لبناء المجتمع ، وتهذيب العاطفة ، وتوجيه العلاقات الأسرية الوجهة السليمة ، لذلك يقول الفيروزبادي : سورة التغابن مكية إلا آخرها : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ . . . } إلى آخر السورةv .
فالآيات الأولى من السورة شبيهة بالآيات المكية في بناء العقيدة ، وتأكيد معنى الألوهية ، وبيان صفات الله وكمالاته ، أما الآيات الأخيرة من السورة فتتجه لبناء مجتمع سليم .
وفي تفسير مقاتل وابن جرير الطبري أن الآية نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة ، فثبطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم .
وروى ابن جرير عن عكرمة أن رجلا سأل ابن عباس عن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ . . . } ( التغابن : 14 ) . قال : هؤلاء رجال أسلموا ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فلما أتوا رسول الله عليه وسلم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين ، هموا أن يعاقبوهمvi فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيها : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فينبغي ألا تشغل المكلف زوجته ولا أولاده عن طاعة الله ، وأن تكون أسرته وسيلة لمرضاة ربه ، ومعينة له على الصلاح والإصلاح ، إن الله يمتحن الإنسان بالمال والولد ، فالمؤمن يتخذ ماله وسيلة لمرضاة ربه ، ويجعل من ولده أثرا صالحا ، وعند الله الأجر الأكبر لمن أحسن استخدام ماله وولده في طريق الخير والإحسان .
روى الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب ، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ، ووضعهما بين يديه ، ثم قال : " صدق الله ورسوله : إنما أموالكم وأولادكم فتنة . نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران حتى قطعت حديثي ورفعتهما " . vii
وفي الأثر : الولد مجبنة مبخلة ، أي : يجعل والده جبانا وبخيلا ، رغبة من الأب في توفير الحماية والمال لولده .
والإسلام يهذب الغرائز ، وينمي الفطرة ويوجهها إلى الوجهة السليمة ، فيأمر بالاعتدال في حب المال والولد ويحذر من الافتتان بهما ، وإذا طلبت الزوجة أو الأولاد ما يغضب الله فحذار من طاعتهما ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وكل ما قد ترى تفنى بشاشته *** يبقى الإله ويفنى الأهل والولد
وفي آخر السورة دعوة إلى تقوى الله قدر الطاقة والاستطاعة ، وحث على الصدقة والإحسان ، وتحذير من البخل والشح : إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا . . . ( التغابن : 17 ) . وتقدموا صدقة للفقراء وعملا صالحا في مرضاة الله ، فإن الله يضاعف الثواب لكم إلى سبعمائة ضعف ، ويصفح عن عقوبتكم ، ويشكر لكم أعمالكم ، وهو سبحانه شكور حليم ، فالله صاحب الفضل والنعم ، يطلب من عبده فضل ما أعطاه ، ثم يشكر لعبده ويعامله بالحلم والعفو عن التقصير ، فما أجمل الله وما أعظم حلمه ، وما أوسع رحمته وفضله .
وفي الآية الأخيرة تظهر صفات الجلال والكمال ، فهو سبحانه ، عالم الغيب . أي : ما لا يراه العباد ويغيب عن أبصارهم ، والشهادة . أي : ما يشهدونه فيرونه بأبصارهم viii . فكل شيء مكشوف لعلمه خاضع لسلطانه ، مدبر بحكمته ، وهو العزيز الغالب ، الحكيم في تدبير خلقه وصرفه إياهم فيما يصلحهم .
معظم مقصود سورة التغابن : بيان تسبيح المخلوقات ، والحكمة في تخليق الخلق ، والشكاية من القرون الماضية ، وإنكار الكفار البعث والقيامة ، وبيان الثواب والعقاب ، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد ، والأمر بالتقوى حسب الاستطاعة ، وتضعيف ثواب المتقين ، والخبر عن اطلاع الحق على علم الغيب في قوله سبحانه : { عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } . ( التغابن : 18 ) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 4 ) }
ما في السماوات والأرض : جميع المخلوقات في السماوات والأرض بدلالتها على كماله واستغنائه .
1-{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
كل شيء في الكون خاضع لقدرة الله ، مؤمن بوجود الله ، مُسبّح ومُعظّم ومُنزّه لله عن كل نقص ، ومعترف له بكل كمال ، فالملك لله وحده ، والحمد لله وحده ، وملك الناس أمر عارض ومنتقل ، وشكرنا للناس هو شكر لمن أجرى الله النعمة على يديه ، فالمخلوق سبب ظاهر ، والمسبب الحقيقي هو الله تعالى .
{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
والقدرة صفة وجودية قديمة قائمة بذات الله تعالى ، فهو خالق الأكوان ، ورازق الأكوان ، ومدبّر الملك والخلق ، وهو فعّال لما يريد ، لا حدود لقدرته ، ولا رادّ لأمره .
قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } . ( يس : 82 ) .
فإذا أراد إيجاد شيء امتثل ووجد في سرعة قول القائل كُن ، وامتثال الشيء ووجوده في الحال ، فكل شيء في الكون خاضع لقدرته ومشيئته وإرادته .
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
هذه الآيات [ الكريمات ] ، مشتملات على جملة كثيرة واسعة ، من أوصاف الباري العظيمة ، فذكر كمال ألوهيته تعالى ، وسعة غناه ، وافتقار جميع الخلائق إليه ، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها ، وأن الملك كله لله ، فلا يخرج مخلوق عن ملكه ، والحمد كله له ، حمد على ما له من صفات الكمال ، وحمد على ما أوجده من الأشياء ، وحمد على ما شرعه من الأحكام ، وأسداه من النعم .
مدنية في قول الأكثرين . وقال الضحاك : مكية . وقال الكلبي : هي مكية ومدنية . وهي ثماني عشرة آية . وعن ابن عباس أن " سورة التغابن " نزلت بمكة ، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " [ التغابن : 14 ] إلى آخر السورة . وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة " سورة التغابن " .
سورة التغابن{[1]}
مقصودها الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه{[2]} المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم ، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك [ و-{[3]} ] هو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت{[4]} به ( بسم الله ) مالك الملك فلا كفوء له ولا مثيل ( الرحمن ) الذي وسع الخلائق بره الجليل ( الرحيم ) الذي خص ممن عمه بالبر قوما فوقهم للجميل .
لما ختمت تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم ، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه{[65641]} عن كل شائبة نقص ، إرشاداً إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته ، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه{[65642]} لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له ، فقال مؤكداً لما أفهمه{[65643]} أول الجمعة : { يسبح } أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار { لله } الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { ما في السماوات } الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء {[65644]}منه شيئاً{[65645]} إلا كان على وفق الإرادة ، فكان لذلك{[65646]} الكون والكائن شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص .
ولما كان الخطاب مع من{[65647]} تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد ، قال مؤكداً بإعادة الموصول : { وما في الأرض } أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه ، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للارادة ، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل {[65648]}في امتثاله{[65649]} لما يراد منه .
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي على كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل العقلي لمن له لب كما قال علي رضي الله عنه : لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع ، كما لا تنفع الشمس و{[65650]}ضوء العين ممنوع ، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد ، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قبله فهو عاجز فهو مسبح دائماً إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله ، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح ، علل{[65651]} ذلك بقوله : { له } أي وحده { الملك } أي{[65652]} كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها{[65653]} دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور والحبور من الإبداع والإعدام ، فهو أبلغ مما في الجمعة ، فإن الملك قد يكون ملكاً في الصورة ، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره ، فداوم التسيبح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام .
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص ، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال : { وله } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته ، فمن فهم تسبيحها فذلك{[65654]} المحسن{[65655]} ، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم ، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه { وهو } أي وحده { على كل شيء } أيّ شيء أي ممكن أن يتعلق به المشيئة { قدير * } لأنه وحده بكل شيء مطلقاً عليم ، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً ، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه{[65656]} بالكمال وقوة السلطان والجلال .
وقال الإمام{[65657]} أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها ، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، وقلوبهم كفرا وعناداً متكاثفة الإظلام ، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم ، وتنكبهم عن هدى الدين القويم ، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم{[65658]} في الكفر بوسم الانفراد وسماً ينبىء عن عظيم ذلك الإبعاد ، سوى ما تناول غيرهم من أحزاب الكفار ، فأنبأ تعالى عن{[65659]} أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين{[65660]} فقال تعالى { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات ، وأهل{[65661]} الكفر ذو طبقات ، وأهل النفاق أدونهم حالاً وأسوأهم كفراً وضلالاً " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم{[65662]} ولو لم تنطو{[65663]} سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها{[65664]} الأذل }[ المنافقين : 8 ] وقد أشار قوله تعالى{ يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور }[ التغابن : 4 ] إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما{[65665]} لم تنطو عليه قلوبهم{ والله يشهد أن المنافقين لكاذبون }[ المنافقين : 1 ] واتخاذهم أيمانهم جنة{[65666]} وصدهم عن سبيل{[65667]} الله إلى ما وصفهم سبحانه به ، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم }[ التوبة : 78 ] ثم قال تعالى :{ ويعلم ما تسرون وما تعلنون }[ التغابن : 4 ] فقرع ووبخ في عدة آيات ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات ، وصدهم عن اعتبار المعجزات ، وأنه الكبر المهلك غيرهم ، فقال تعالى مخبراً عن سلفهم في هذا المرتكب ، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب{ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا }[ التغابن : 6 ] ثم تناسج الكلام معرفاً بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله{ وبئس المصير }[ التغابن : 10 ] ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى .