تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

المفردات :

مثقال : المثقال ما يوزن به ، ومثقال الشيء ميزانه من مثله .

ذرة : مثل في تناهي الصغر .

يره : المراد يجازى به .

التفسير :

7 ، 8- فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره .

فمن يعمل أي خير مهما كان صغيرا فإنه سيلقى الجزاء الحسن من جنس العمل ، ومن يعمل أي شر مهما كان صغيرا ، فإنه سيلقى الجزاء المؤلم من جنس العمل .

وهاتان الآيتان للإفادة بالجزاء العادل من الله عن كل صغيرة وكبيرة ، وأن الناس ستجازى بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا .

وذهب جمهور العلماء إلى أن الكافر يكافأ على الأعمال الصالحة بجزاء دنيوي ، ثم يعاقب على كفره بجهنم ، وذهب فريق من العلماء كالإمام محمد عبده والقاسمي في تفسيره والقاشاني وغيرهم إلى أن هاتين الآيتين تفيدان أن كل عامل خير سيلقى جزاء خيره ، وأن كل عامل شر سيلقى جزاء شرّه بدون استثناء بين كافر ومؤمن .

وجاء في تفسير المراغي ما يأتي :

فمن يعمل مثقال ذرّة يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره .

أي : فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يجد جزاءه ، ومن يعمل الشر ولو قليلا يجد جزاءه ، لا فرق بين المؤمن والكافر .

وحسنات الكافرين لا تخلصهم من عذاب الكفر فهم به خالدون في الشقاء ، وما نطف من الآيات بحبوط أعمال الكافرين وأنها لا تنفعهم ، فالمراد به أنها لا تنجيهم من عذاب الكفر وإن خففت عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم من السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر فلا يخفف عنهم منه شيء ، يرشد إلى ذلك .

قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين . ( الأنبياء : 47 ) .

فقوله : فلا تظلم نفس شيئا . . . صريح في أن المؤمن والكافر في ذلك سواء ، وأن كلاّ يوفّى يوم القيامة جزاءه ، وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه ، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا تلخيص ما قاله الأستاذ الإمام في تفسير الآيةiv .

من تفسير ابن كثير

يومئذ يصدر الناس أشتاتا . . .

أي : يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا . أي : أنواعا وأصنافا ما بين شقي وسعيد ، مأمور به إلى الجنة ، ومأمور به إلى النار .

وقوله تعالى : ليروا أعمالهم . أي : ليجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر ، ولهذا قال : فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره .

روى البخاري ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ) ، الحديث . فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر ؟ فقال : ( ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة : فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره . )v .

وروى الإمام أحمد ، عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه : فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره . ومن يعمل مقال ذرّة شرا يره . قال : حسبي أن لا أسمع غيرهاvi .

وفي صحيح البخاري ، عن عدي مرفوعا : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة ) .

وله أيضا في الصحيح : ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط )vii .

وفي الصحيح أيضا : ( يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة )viii . يعني ظلفها ، وفي الحديث الآخر : ( ردوا السائل ولو بظلف محرق ) .

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان )ix .

وروى عن عائشة أنها تصدقت بعنبة وقالت : كم فيها من ثقال ذرة .

وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لما نزلت : إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قاعد ، فبكى حين أنزلت : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك يا أبا بكر ) ؟ قال : يبكيني هذه السورة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمّة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم )x .

وروى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره . وذلك لما نزلت هذه الآية : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . ( الإنسان : 8 ) .

كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه ، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة ونحو ذلك فيردونه ، ويقولون : ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطى ونحن نحبه ، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة ، والنظرة ، والغيبة ، وأشباه ذلك ، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر ، فرغّبهم في القليل من الخير أن يعملوه فإنه يوشك أن يكثر ، وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر ، فنزلت : فمن يعمل مثقال ذرّة . xi يعني : وزن أصغر النمل .

خيرا يره . يعني : في كتابه ويسره ذلك ، قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة وبكل حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضا بكل واحدة عشرا ، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات ، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة .

وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) ، وإن رسول الله صلى عليه وسلم ضرب لذلك مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادا ، وأججوا نارا ، وأنضجوا ما قذفوا فيها )xii .

ختام السورة:

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم . xiii

( تم بحمد الله وفضله تفسير سورة الزلزلة ) .

i هل تزوجت يا فلان :

رواه الترمذي في فضائل القرآن ( 2895 ) من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه : ( هل تزوجت يا فلان ) ؟ قال : لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به ، قال : ( أليس معك قل هو الله أحد ) ؟ قال : ( ثلث القرآن ) قال : ( أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) ، قال : ( أليس معك قل يا أيها الكافرون ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) قال : ( أليس معك إذا زلزلت الأرض ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) قال : ( تزوج ) .

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن .

ii تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان :

رواه مسلم في الزكاة ( 1013 ) والترمذي في الفتن ( 2208 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا ) .

iii أتدرون ما أخبارها :

رواه الترمذي في صفة القيامة ( 2429 ) وفي التفسير ( 3353 ) وأحمد في مسنده ( 8650 ) من حديث أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { يومئذ تحدث أخبارها } قال : ( أتدرون ما أخبارها ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها أن تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا قال فهذه أخبارها ) .

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .

iv تفسير المراغي : أحمد مصطفى المراغي ، الجزء الثلاثون ص 220 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، وقد ورد ذلك موسعا في تفسير جزء عم للإمام محمد عبده .

v أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري .

vi أخرجه أحمد والنسائي .

vii أخرجه البخاري .

viii أخرجه البخاري أيضا .

ix أخرجه أحمد .

x أخرجه ابن جرير .

xi أخرجه ابن أبي حاتم .

xii أخرجه الإمام أحمد .

xiii انظر مختصر تفسير ابن كثير ، تحقيق الصابوني المجلد الثالث ص 666 ، 667 .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

{ فمن يعمل مثقال ذرة . . . } تفصيل للرائين وما يرونه . و " مثقال ذرة " أي مقدار وزن أصغر نملة . أو ما يرى من الهباء في شعاع الشمس الداخل من الكوة ؛ وهو مثل في القلة . وعن ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خير أو شرا في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة ؛ فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته ، فيغفر له سيئاته ، ويثيبه بحسناته . وأما الكافر فيرى حسناته وسيئاته ، فيرد حسناته ، ويعذبه بسيئاته . وقوله : " فيرد حسناته " أي لا يثيبه عليها ؛ لكفره وهو محبط للعمل . وإن خفف عنه العذاب بسببها ؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك .

والله أعلم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } وهذا شامل عام للخير .

{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }والشر كله ؛ لأنه إذا رأى مثقال الذرة التي هي أحقر الأشياء ، [ وجوزي عليها ] فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا }

وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلًا ، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى- قوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } كان ابن عباس يقول : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا ، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ، ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه ، ويضاعف له في الآخرة . وفي بعض الحديث : ( الذرة لا زنة لها ) ، وهذا مثل ضربه الله تعالى : أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة . وهو مثل قوله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }{[16276]} [ النساء : 40 ] . وقد تقدم الكلام هناك في الذر ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذر : أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علق بها من التراب فهو الدر ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة . وقال محمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن ، يرى{[16277]} عقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر ؟ قال : " ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر ، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير ، حتى تعطوه يوم القيامة " . قال أبو إدريس : إن مصداقه في كتاب الله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير }{[16278]} [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل { ويطعمون الطعام على حبه }{[16279]} [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة{[16280]} . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر ، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، ويحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ، وقاله سعيد بن جبير . والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء .

الثانية : قراءة العامة " يَره " بفتح الياء فيهما . وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى بن عمر وأبان عن عاصم : " يُره " بضم الياء ، أي يُريه الله إياه . والأولى الاختيار ؛ لقوله تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا }{[16281]} [ آل عمران : 30 ] الآية . وسكن الهاء في قوله " يره " في الموضعين هشام . وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل " يره " أي يرى جزاءه ؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى . وأنشدوا :

إن من يعتدي ويكسبُ إثما *** وزْنَ مثقالِ ذَرَّةٍ سَيَرَاهُ

ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا *** وبفعل الجميل أيضا جزَاهُ

هكذا قوله تبارك رَبِّي *** في إذا زلزلت وجل ثَنَاهُ

الثالثة : قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن ، وصدق . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية : القائلون بالعموم ومن لم يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } قال : في الحال قبل المآل . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة ، كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما واحد ؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر ، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحمر ، لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم " الدلدل " ، التي أهداها له المقوقس ، فأفتاه في الحمير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة ، قاله ابن العربي . وفي الموطأ : أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب ، فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب ، فقال : أتعجب ! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة . وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل الذر ، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة . وروى المطلب بن حنطب : أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال : يا رسول الله ، أمثقال ذرة ! قال : " نعم " . فقال الأعرابي : واسوأتاه ! مرارا : ثم قام وهو يقولها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان " . وقال الحسن : قدم صعصعة عم الفرزدق{[16282]} على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع { فمن يعمل مثقال ذرة } الآيات ، قال : لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حسبي ، فقد انتهت الموعظة ، ذكره الثعلبي . ولفظ الماوردي : وروي أن صعصة بن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فقال صعصعة : حسبي حسبي ، إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته . وروى معمر عن زيد بن أسلم : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : علمني مما علمك الله . فدفعه إلى رجل يعلمه ، فعلمه { إذا زلزلت } حتى إذا بلغ { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } قال : حسبي . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " دعوه فإنه قد فقه " . ويحكي أن أعرابيا أخر " خيرا يره " فقيل : قدمت وأخرت . فقال :

خذا بطنَ هَرْشَى أو قَفَاها فإنه *** كلا جانبي هَرْشَى لهنَّ طريقُ{[16283]}


[16276]:آية 40 سورة النساء. راجع جـ 5 ص 195.
[16277]:كذا في الأصل وبعض التفسير بإثبات الياء والراجح حذفها.
[16278]:آية 30 سورة الشورى.
[16279]:آية 8 سورة الإنسان.
[16280]:الجوزة: واحدة الجوز الذي يؤكل، فارسي معرب.
[16281]:آية 30 سورة آل عمران.
[16282]:قال أبو أحمد العسكري: "وقد وهم في صعصعة بن معاوية عم الأحنف بن قيس، فقال: صعصعة عم الفرزدق وهو غلط". والمعروف أن صعصعة بن ناجية هو جد الفرزدق، وليس له عم يسمى صعصعة. راجع كتاب الإصابة وأسد الغابة في ترجمة صعصعة.
[16283]:هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة، يرى منها البحر، ولها طريقان، فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد. في معجم البلدان لياقوت: خذا أنف هرشى . . . وفي اللسان: خذا جنب هرشى ...

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

ولما ذكر الخير ، أتبعه ضده فقال : { ومن يعمل } أي كائناً من كان { مثقال ذرة شراً } أي من جهة الشر { يره } فما فوقه ، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه ، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه ، والذرة النملة الصغيرة ، أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة ، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار ، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها أحكم آية في القرآن ، وكان رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم يسميها الفاذة الجامعة ، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق ؛ لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : " إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً " .

ختام السورة:

وروي كما ذكرته في كتابي " مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور " في حديث " إنها تعدل نصف القرآن " ، وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن ، ولا تعارض ، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة ، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً ، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال ، وأن كل أحد يرى كل ما عمل ، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر " ، فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن ، وأيضاً فأمر الدين أربعة أجزاء : أمر المعبود ، وأمر العبيد ، وأمر العبادة ، وأمر الجزاء ، فهذه السورة تكفلت بأمر الجزاء ، وسورة الكافرون ربع ؛ لأنها في أمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء ، وإن كانت على وجه التمام والوفاء ، وسورة النصر ربع ؛ لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء ، والله الهادي للصواب ، وإليه المآب .