لقد خلقنا الإنسان في كبد : جواب القسم . والكبد : النصب والمشقة ومكابدة الشدائد .
أي : لقد خلقنا الإنسان في مشقة ومعاناة طويلة ، حيث يمر بمراحل في بطن أمه ، وبمراحل متعددة في انتقاله من الطفولة إلى الفتوّة ، إلى الشباب والرجولة والكهولة والشيخوخة ، ثم المرض والموت وحياة القبر والبعث والحساب ، والميزان والصراط ، والجنة أو النار .
والكبد : المشقة والجهد والمعاناة التي يمر بها الإنسان في حياة الدنيا ، وحياة الآخرة .
وإذا سأل سائل وقال : لماذا أقسم الله بمكة وبحياة النبي صلى الله عليه وسلم بها ، ولكل والد وما ولد ، على أنه خلق الإنسان في كبد ومشقة ومعاناة ؟
كان الجواب : نزلت هذه الآيات والمؤمنون بمكة يتعرضون للأذى والاضطهاد ، ويقاسون صنوف التعذيب والآلام ، فكأن القرآن يقول :
تلك ضريبة الحياة ، وهي الكبد والمشقة ، ولأن تكون المشقة في أمر عظيم ، هو نشر رسالة وإحياء دعوة أفضل من أن تكون في سبيل عرض من أعراض الدنيا .
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } روى الوالبي عن ابن عباس : في نصب . قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال قتادة : في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا . وقال سعيد بن جبير : في شدة . وقال عطاء عن ابن عباس : في شدة خلق حمله وولادته ورضاعه ، وفطامه وفصاله ومعاشه وحياته وموته . وقال عمرو بن دينار : عند نبات أسنانه . قال يمان : لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . وأصل الكبد : الشدة . وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والضحاك : يعني منتصباً معتدل القامة ، وكل شيء خلق فإنه يمشي مكباً ، وهي رواية مقسم عن ابن عباس ، وأصل الكبد : الاستواء والاستقامة . وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى رجلي أمه . وقال مقاتل : في كبد أي في قوة . نزلت في أبي الأشد ، واسمه أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديداً قوياً يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعاً ويبقى موضع قدميه .
إلى هنا انتهى القسم ، وهذا جوابه . ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها ، كما تقدم . والإنسان هنا ابن آدم . " في كبد " أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا . وأصل الكبد الشدة . ومنه تكبد اللبن : غلظ وخثر وأشتد . ومنه الكبد ؛ لأنه دم تغلظ واشتد . ويقال : كابدت هذا الأمر : قاسيت شدته : قال لبيد :
يا عينُ هلاَّ بكيتِ أربدَ إذْ *** قُمْنَا وقام الخصومُ في كَبَدِ
قال ابن عباس والحسن : " في كبد " أي في شدة ونصب . وعن ابن عباس أيضا : في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه ، وغير ذلك من أحواله . وروى عكرمة عنه قال : منتصبا في بطن أمه . والكبد : الاستواء والاستقامة . فهذا امتنان عليه في الخلقة . ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم ، فإنه منتصب انتصابا ، وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما . ابن كيسان : منتصبا رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه . وقال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وعنه أيضا : يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء ؛ لأنه لا يخلو من أحدهما . ورواه ابن عمر . وقال يَمانٌ : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . قال علماؤنا : أول ما يكابد قطع سرته ، ثم إذا قمط قماطا ، وشد رباطا ، يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته لضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، وتحرك لسانه ، ثم يكابد الفطام ، الذي هو أشد من اللطام ، ثم يكابد الختان ، والأوجاع والأحزان ، ثم يكابد المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه{[16074]} ، ثم يكابد شغل الأولاد ، والخدم والأجناد ، ثم يكابد شغل الدور ، وبناء القصور ، ثم الكبر والهرم ، وضعف الركبة والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها ، ونوائب يطول إيرادها ، من صداع الرأس ، ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وغم الدين ، ووجع السن ، وألم الأذن . ويكابد محنا في المال والنفس ، مثل الضرب والحبس ، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ، ولا يكابد إلا مشقة ، ثم الموت بعد ذلك كله ، ثم مساءلة الملك ، وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث والعرض على الله ، إلى أن يستقر به القرار ، إما في الجنة وإما في النار ، قال الله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في كبد " ، فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد . ودل هذا على أن له خالقا دبره ، وقضى عليه بهذه الأحوال ، فليمتثل أمره . وقال ابن زيد : الإنسان هنا آدم .
وقوله : " في كبد " أي في وسط السماء . وقال الكلبي : إن هذا نزل في رجل من بني جمح ، كان يقال له أبو الأشدين{[16075]} ، وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا . فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه ، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه نزل " أيحسب أن لن يقدر عليه أحد " [ البلد : 5 ] يعني : لقوته . وروي عن ابن عباس . " في كبد " أي شديدا ، يعني شديد الخلق ، وكان من أشد رجال قريش . وكذلك ركانة ابن هشام بن عبد المطلب ، وكان مثلا في البأس والشدة . وقيل : " في كبد " أي جريء القلب ، غليظ الكبد ، مع ضعف خلقته ، ومهانة مادته . ابن عطاء : في ظلمة وجهل . الترمذي : مضيعا ما يعنيه ، مشتغلا بما لا يعنيه .
{ لقد خلقنا } أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى { الإنسان } أي هذا النوع { في كبد * } أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك ، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا ، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد ، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد ، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة ، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة ، علم جميع ما في السورة ، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالي عظمته ، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً ، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق ، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل - هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز ، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه ، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر ،