رحلة الشتاء : كانت إلى اليمن .
والصيف : أي : ورحلة الصيف ، وكانت إلى الشام يتاجرون فيها ويمتارون .
2- إيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
هذه الآية بدل من الآية السابقة وشرح لها ، أي : من سبب نعم الله عليها ، أنها ألفت الخروج من أرضها الصعبة التي لا زرع فيها ولا ثمر ، وحبّب الله إليها نعمة التجارة ، والخروج في الشتاء إلى اليمن لجلب الأعطار والأفاوية ، والخروج في الصيف إلى الشام لجلب الأقوات إلى بلادهم .
وكانت العرب تحترمهم لأنهم سدنة بيت الله ، ولأن الله عز وجل قد رد عنهم أصحاب الفيل ، وأهلكهم قدرته ، فكان ذلك من أسباب عزة قريش ، وسعة أرزاقها ، لمحافظة العرب على تجارتها ، وكان العرب يغيرون على كثير من القبائل ، لكن الله مكّن لقريش .
قال تعالى : أو لم نمكّن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء . . . ( القصص : 57 ) .
ونلحظ أن الله تعالى منّ عليهم في السورة السابقة ( سورة الفيل ) بردّ كيد أصحاب الفيل ، وحماية البيت الحرام وأهل مكة منهم ، ثم منّ عليهم في هذه السورة بنعمة الأمن والأمان ، وإلف السفر والتعوّد عليه ، وكانت تجارتهم تربح ، والناس تحافظ عليها ، وكان الحجيج يحملون معهم ثمرات بلادهم أثناء الحج والعمرة .
قال تعالى : أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف الناس من حولهم . . . ( العنكبوت : 67 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } يقول : رحلة قريش الرحلتين ، إحداهما إلى الشام في الصيف ، والأخرى إلى اليمن في الشتاء . ...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة : إحداهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام . وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء ، كانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ...
واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا ، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله : { وقطعناهم في الأرض أمما } واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ، ومنه قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إيلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً ، فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم ، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها . وعند القبائل التي تحرِّم الأشهر الحُرم والقبائلِ التي لا تحرّمها مثل طيء وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطاً تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بُرّ وشعير وذُرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } . فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإِيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة لأن هذا الإِيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مكّة تقع في واد غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالباً من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف . والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما . هذه هي رحلة الشتاء . . . ورحلة الصيف . والمقصود ب «إيلافهم » في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة . وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ؛ لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ، ويعيرونها أهمية خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة . قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن اللّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة . ...
ولما علل بالإيلاف وكان لازماً ومتعدياً ، تقول : آلفت المكان أولفه إيلافاً ، فأنا مؤلف ، وآلفت فلاناً هذا الشيء أي جعلته آلفاً له ، وكان الإتيان بالشيء محتملاً لشيئين ، ثم إبدال أحدهما منه أضخم لشأنه وأعلى لأمره ، أبدل منه قوله : { إلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء * } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف * } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً ، فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم ، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ، والرحلة بالكسر هيئة الرحيل ، وقرىء بالضم ، وهي الجهة التي يرحل إليها ، وكانوا معذورين لذلك ؛ لأن بلدهم لا زرع به ولا ضرع ، فكانوا إذا ضربوا في الأرض قالوا : نحن سكان حرم الله وولاة بيته ، فلا يعرض أحد بسوء ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :
قل للذي طلب السماحة والندى *** هلا مررت بآل عبد مناف
الرائشين وليس يوجد رائش *** والقائلين هلم للإضياف
والخالطين فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكاف
القائلين بكل وعد صادق *** والراحلين برحلة الإيلاف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف
سفرين سنّهما له ولقومه *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وتبع هاشماً على ذلك إخوته ، فكان هاشم يؤلف إلى الشام ، وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الإخوة - أي عهودهم - التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي ، وأفرد الرحلة في موضع التثنية لتشمل كل رحلة ، كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس ، إشارة لهم بالبشارة بأنهم يتمكنون عن قريب من الرحلة إلى أي بلد أرادوا ، لشمول الأمن لهم وبهم جميع الأرض بما نشره الله سبحانه وتعالى من الخير في قلوب عباده في سائر الأرض بواسطة هذا النبي الكريم الذي هو أشرفهم وأعظمهم وأجلهم وأكرمهم .