( الآيات الثلاث الأولى من سورة الماعون مكية ، وبقية السورة مدنية ، وآياتها 7 آيات ، نزلت بعد سورة التكاثر )
وهي سورة ذات معنى أصيل في الشريعة ، تعالج حقيقة ضخمة ، هي أن هذا الدين ليس مظاهر وطقوسا ، ولكنه عقيدة صادقة ، ويقين ثابت ، وإخلاص لله ، ويتمثل هذا اليقين في سلوك نافع ، وحياة مستقيمة . كما أن هذا الدين ليس أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، وإنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره في تحقيق الخير للفرد والجماعة .
1- أرأيت الذي يكذّب بالدين . أي : هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية والشئون الغيبية ، بعد أن ظهر له الدليل القاطع والبرهان الساطع .
قال ابن جريح : نزلت في أبي سفيان ، كان ينحر جزورين في كل أسبوع ، فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه .
وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة .
وعن السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقيل : في أبي جهل ، وحكى المارودي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه ، فدفعه ولم يعبأ به ، فأيس الصبي ، فقال له أكابر قريش استهزاء : قل لمحمد يشفع لك ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتمس منه الشفاعة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد محتاجا ، فذهب معه إلى أبي جهل فقام أبو جهل ورحب به وبذل المال لليتيم ، فعيرته قريش وقالوا له : صبأت ، فقال : لا والله ما صبأت ، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة ، خفت إن لم أجبه أن يطعنها فيّ .
وقال كثير من المفسرين : إنه عام لكل من كان مكذبا بيوم الدين .
2- فذلك الذي يدعّ اليتيم . أي : فذلك المكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم ، ويزجره زجرا عنيفا ، لقد خلا من الرحمة ، وامتلأ بالكبر والغطرسة ، ولذلك أهان اليتيم وآذاه ، واليتيم مظهر من مظاهر الضعف ، فقد فقد الأب الذي يحميه ، والعائل الذي يحنو عليه ، ومن واجب المجتمع أن يتعاون على إكرامه ، والأخذ بيده حتى ينشأ عزيزا كريما . إن كل فرد معرّض لأن يفاجئه الموت وأن يترك أولاده يتامى ، فليعامل اليتيم بما يحب أن يعامل به أولاده لو كانوا يتامى .
قال تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرّية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا . ( النساء : 9 ) .
وقد تكررت وصايا القرآن برعاية اليتيم والمحافظة على ماله ، والتحذير من تضييع حقه ، ورد ذلك في السور المكية والسور المدنية ، ففي هذه الآيات وفي سورة الضحى –وهي من أوائل ما نزل من القرآن- وصية باليتيم ، وفي صدر سورة النساء المدنية تفصيل واف لرعاية اليتيم بدأ بقوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا . ( النساء : 2 ) .
وقد وردت عدة وصايا باليتيم في الآيات : السادسة ، والعاشرة ، والسادسة والعشرين من سورة النساء . كما تكررت الوصية باليتيم في آيات القرآن ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيوت المسلمين بين فيه يتيم يساء إليه ) .
3- ولا يحضّ على طعام المسكين . أي : ولا يحث على إطعام المسكين .
قال الإمام محمد عبده : وهو كناية عن الذي لا يجود بشيء من ماله على الفقير المحتاج إلى القوت ، الذي لا يستطيع كسبا .
وليس المسكين هو الذي يطلب منك أن تعطيه وهو قادر على قوت يومه ، بل هذا هو الملحف الذي يجوز الإعراض عنه ، وتأديبه بمنعه ما يطلب ، وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين ولم تجد ما تعطيه ، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه ، وفيه حث للمصدقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم ، وهي طريقة الجمعيات الخيرية ، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية ، وبنحو قوله تعالى في سورة الفجر : كلاّ بل لا تكرمون اليتيم* ولا تحاضّون على طعام المسكين . ( الفجر : 17 ، 18 ) . ونعمت الطريقة هي لإغاثة الفقراء ، وسد شيء من حاجات المساكين .
( إن حقيقة التصدق بالدين ليست كلمة تقال باللسان ، إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية ، المحتاجين إلى الرعاية والحماية ، والله لا يريد من الناس كلمات ، إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها ، وإلا فهي هباء لا وزن لها عنده ولا اعتبار . وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة ، وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل )i .
4 ، 5- فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون . أي : إذا عرفت أن المكذب بالدين هو الذي أقفر قلبه من الرحمة ، وأجدب من العدل والمكرمة ، ( فويل لأولئك الذين يصلّون ، ويؤدون ما يسمى صلاة في عرفهم من الأقوال والأفعال وهم مع ذلك ساهون عن صلاتهم ، أي غافلة قلوبهم عما يقولون وما يفعلون ، فهو يركع في ذهول عن ركوعه ، ويسجد في لهوة عن سجوده )ii . وإنما هي حركات اعتادها ، وأدعية حفظها ، ولكن قلبه لا يعيش معها ، ولا يعيش بها ، وروحه لا تستحضر حقيقة الصلاة ، وحقيقة ما فيها .
6- الذين هم يراءون . أي : يفعلون ما يرى للناس فقط ، ولا يستشعرون من روح العبادة ما أوجب الله على النفوس أن تستشعره .
( إنهم يصلّون رياء للناس لا إخلاصا لله ، ومن ثم فهم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها ، ساهون عنها لم يقيموها ، والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها ، وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها ) . iii .
7- ويمنعون الماعون . أي : يمنعون المساعدة عن المستحق لها ، أو يمنعون ما اعتاد الناس قضاءه وتداوله فيما بينهم ، تعاونا وتآزرا ، ولا يمنعه إلا كل شحيح يكره الخير .
( إنهم يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية ، يمنعون الماعون عن عباد الله ، ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله )iv .
( وأكثر المفسرين على أن الماعون اسم جامع لما لا يمنع في العادة ، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ، ولا ينسب سائله إلى لؤم بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل ، كالفأس والقدر والدلو والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار ، لما روي : ( ثلاثة لا يحل منعها : الماء والنار والملح ) .
وقد تسمى الزكاة ماعونا ، لأنه بسببها يؤخذ من المال ربع العشر ، وهو قليل من كثير .
قال العلماء : ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك ، ولا يقتصر على قدر الضرورة ، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار )v .
إن الشرائع السماوية إنما أنزلت لتهذيب الضمير ، ونقاء القلوب ، وصفاء النفوس ، وتقويم السلوك ، وبذلك تسمو الحياة ، ويسود الحب والتآلف ، والإخاء والتكافل الجميل .
1- الدين ليس رسوما وطقوسا ، ولكنه عقيدة صادقة وسلوك مستقيم .
2- الدين الحق صلاة خاشعة ، ورعاية لليتيم ، وحماية للمسكين ، ومساعدة للمحتاجين .
3- المكذب بالدين له سمات وصفات ، هي : إذلاله لليتيم ، عدم رحمة المسكين ، الانشغال عن الصلاة ، الرياء والنفاق ، منع العون والمعونة عن المحتاج إليها .
{ أرأيت الذي يكذّب بالدين 1 فذلك الذي يدعّ اليتيم 2 ولا يحضّ على طعام المسكين 3 فويل للمصلين 4 الذين هم عن صلاتهم ساهون 5 الذين هم يراءون 6 ويمنعون الماعون 7 }
أرأيت الذي يكذب بالدين : الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ، والمراد بالدين : الحساب والجزاء .
هل شاهدت هذا الصنف من الناس الذي يكذّب بيوم الجزاء ، ويكفر بالبعث والحشر ، والثواب والعقاب ، وقد ورد أنها نزلت في عدد من رؤوس الكفر ، كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وظلموا اليتامى وأكلوا حقوقهم ، ولم يعطفوا على الضعفاء ولم يساعدوهم ، لذلك نجد فريقا من المفسرين يقول : إن الآيات الثلاث الأولى تتحدث عن الكافرين ، والآيات الأربع الأخيرة تتحدث عن المنافقين . vi
وفريقا آخر يرى أن الآيات الكريمة في سورة الماعون تنطبق على المسلمين الذين يزعمون أنهم مسلمون ، لكن تصديقهم بالدين أصبح ضعيفا أو باهتا ، بدليل حبس أموالهم ومعروفهم عن اليتيم والمسكين ، ودخولهم في الصلاة بدون قلب حاضر ، وإنما هو الرياء والتظاهر ، ولا يهتمون بالتعاون لرفع مستوى معيشة الفقراء والمساكينvii .
وعند التأمل نجد أن السورة يمكن أن تنطبق على الكافرين والمنافقين كما ذهب الفريق الأول ، كما يمكن أن تشمل ضعفاء الإيمان الذين لا يقومون بحق الله كاملا ، ولا يؤدون حقوق العباد على الوجه السليم ، كما ذهب الفريق الثاني .
سورة الماعون مكية ، وآياتها سبع ، نزلت بعد سورة التكاثر . وتخبر سورة الماعون عن المكذبين بالدين وبالبعث بطريقة الاستفهام للتعجيب . ثم بينت صفات هؤلاء المكذبين بأنهم يهينون الأيتام ويزجرونهم ، ولا يعطفون عليهم . وأنهم يبخلون بأموالهم ، ولا يحضّون أحدا بقول أو عمل على إطعام المساكين ، وذلك لشدة بخلهم وشحّهم . ثم بينت فريقا آخر يتهاون في صلاته ، ولا يؤديها في أوقاتها ، ولا يقيمها كما يجب ، ويتظاهر بالتدين ، ولكنه خِداع ومراء . وقد توعدت الجميع بالهلاك والثبور .
بالدِين : الخضوع إلى الله والتصديقُ بالبعث والجزاء .
هل عرفتَ يا محمد ، ذلك الذي يكذّب بالجزاءِ والحسابِ في الآخرة ، ولا يؤمن بما جاءَ به الرسول ؟
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة الماعون مكية في قول عطاء وجابر، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهي مكية بلا خلاف علمته ، وقال الثعلبي : هي مدنية .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة مكية في بعض الروايات ، ومكية مدنية في بعض الروايات [ الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية ] وهذه الأخيرة هي الأرجح . وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة ، ذات اتجاه واحد ، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة ، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها ، إذ أن الموضوع التي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني - وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفا في الجماعة المسلمة في مكة . ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع . . وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها . .
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا . فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة . .
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ؛ ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد ، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح للحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد .
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان !
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها [ كما قلنا في سورة العصر ] لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا . وهذا ما تقرره هذه السورة نصا . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير سورة الماعون، لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها .
وسميت في بعض التفاسير سورة أرأيت، وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في صحيح البخاري .
وعنونها ابن عطية بسورة أرأيت الذي . وقال الكواشي في التلخيص سورة الماعون والدين وأرأيت ، وفي الإتقان وتسمى سورة الدين، وفي حاشيتي الخفاجي وسعدي تسمى سورة التكذيب، وقال البقاعي في نظم الدرر تسمى سورة اليتيم . وهذه ستة أسماء .
وهي مكية في قول الأكثر . وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية . وروي عن ابن عباس أيضا . وفي الإتقان : قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله { المسكين } وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي بناء على أن قوله { فويل للمصلين } إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس، وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر ...
من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين ، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } يعني بالحساب ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله : { أرأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ } أرأيت يا محمد الذي يكذّب بثواب الله وعقابه ، فلا يطيعه في أمره ونهيه .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ أرأيت } حرف يستعمل في موضع السؤال والاستفهام ، ويجوز أن يكون استعماله على وجه التقرير على السائل لما يراد إعلامه...
اعلم أن { الذي يدع اليتيم } { ولا يحض على طعام المسكين } هو الذي يكذب بالدين ، قال أهل التأويل جميعا : { يكذب بالدين } أي بالحساب والبعث . ... وجائز أن يكون { يكذب بالدين } الذي يظهر لك ، ولا يحقق . فإن كان في المنافقين } لأن أهل النفاق كانوا يكذبون فهو من يظهر الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . وإن كان في أهل الكفر ، فهو في الرؤساء منهم ، فتكذيبهم بالدين ، هو ما كانوا يظهرون لأتباعهم من الجهد والشدة ، يموّهون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أن الذي هم عليه حق ، وأن الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل ، فيكذبون بالدين الذي يرون من أنفسهم ، ويظهرون بالتمويهات التي يموهون بها عليهم ، فكيف إن كانت نزلت في المنافقين ، أو في أهل الكفر ، أو في الذي كذب بالحساب والبعث ، أو في الذي ذكرنا أنه يظهر خلاف ما يضمر ؟ . فيه عظة وتنبيه للمؤمنين وزجر لهم عن مثل صنيعهم ؛ لأنه نعت الذي كذب بالدين ؛ إذ كان المراد به الحساب أو الدين نفسه حين قال : { فذلك الذي يدع اليتيم } { ولا يحض على طعام المسكين } كأنه قال : { الذي يكذب بالدين } هو { الذي يدع اليتيم } أي يظلم اليتيم ، وحقه يمنع { ولا يحض على طعام المسكين } يقول- والله أعلم- للمؤمنين : لا تظلموا اليتيم ، ولا تمنعوا حقه ، ولا تسيئوا صحبة اليتيم كما فعل من كذب بالدين ، وما حض على طعام المسكين ، يصف بخلهم واستهانتهم باليتيم والمساكين ، وسوء معاملتهم التي عاملوها ، يعظ المؤمنين ويزجرهم عن ذلك . وجائز أن يكون قوله تعالى : { ولا يحض على طعام المسكين } لما عندهم أن من أعطي المال ، ووسع عليه الدنيا ، إنما أعطي ذلك لكرامة له عند الله تعالى ، ومن ضيق عليه ، ومنع ذلك عنه ، لهوان له عنده وحقارة ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو ؟ إن لم تعرفه .
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... قال ابن عباس : { بالدين } : بحكم الله . وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ أرأيت } أي أخبرني يا أكمل الخلق { الذي يكذب } أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان { بالدين } أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق ، الناهي عن سيئها ، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر ، ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني ، المتعدي إلى مفعولين ، كان تقدير المفعول الثاني : أليس جديراً بالانتقام منه ....{ أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } أي إن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه ، وعدم الحض على إطعامه ، والسهو عن الصلاة ، والمراءاة بالأعمال ، ومنع الحاجات ، إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء ؛ لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك ، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور ، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها ، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها ، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه ، فمن تشبه بقوم فهو منهم ، فاحذروا هذه الرذائل ، فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل ، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده ، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر ، والشغل بالأموال والأولاد ، فنهى عباده عن هذه الرذائل التي يثمرها ما تقدم ، والتحمت السور . انتهى .
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ أَرَأيْتَ الذي يُكَذّبُ بالدين } استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلاَمُ ، والتعجيبُ منْهُ . والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم . وقيلَ : لكُلِّ عاقلٍ ، والرؤيةُ بمَعْنى المَعْرفةِ ، وقُرِئَ ( أرأيتَكَ ) بزيادةِ حَرْفِ الخطابِ . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء . والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
الدين : كناية عن يوم الآخرة والحساب . ... إنذار وسوء دعاء على الذين يصلون وقلوبهم لاهية عما هم فيه . والذين يصدرون في عبادتهم وأعمالهم أمام الله والناس عن رياء وخداع . والذين يمنعون عونهم وبرهم ، أو ماعونهم عن المحتاجين إليه . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ أَرَأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } من هؤلاء المنافقين الذين لا يؤمنون بالجزاء في يوم القيامة ، أو لا يؤمنون بالدين كله في عقيدته وفي شريعته التي تدعو إلى أن يحمل الإنسان مسؤوليّة الفئات المحرومة في الأمة ، ليمنحهم ، من جهده ، ومن ماله ، ....أرأيت يا محمد ، ويا كلَّ من يتحرك في الحياة على خط محمد( صلى الله عليه وسلم ) ، هذا الإنسان كيف يتحرك في المجتمع ، وكيف يعبّر عن واقعه الداخلي ، وكيف يكذّب عمله ما يدّعيه من الإيمان في الصورة الخارجية من حياته ؟ ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنكار المعاد وآثاره المشؤومة : هذه السّورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول : { أرأيت الذي يكذب بالدين } .
لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم ، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة ، فكان معرفاً بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء ، وأمرهم آخر قريش بشكر نعمته بإفراده بالعبادة ، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق ، الناهي عن مساوئها ، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحكمة الحكيم ، ووصف المكذب به بأوصاف هم منها في غاية النفرة ، وصوّره بأشنع صورة بعثاً لهم على التصديق ، وزجراً عن التكذيب ، فقال خاصاً بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره : { أرأيت } أي أخبرني يا أكمل الخلق { الذي يكذب } أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان { بالدين * } أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق ، الناهي عن سيئها ، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر ، ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني ، المتعدي إلى مفعولين ، كان تقدير المفعول الثاني : أليس جديراً بالانتقام منه .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جارٍ على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله : { إن الإنسان لربه لكنود } { إن الإنسان لفي خسر } { يحسب أن ماله أخلده } وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضاً كالشغل بالتكاثر ، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل ، أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام ، أو يوجد بعضها ، أو أعمال من يتصف بها ، وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم ، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به ، وعدم الحض على طعام المسكين ، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها ، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض ، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله ، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب . أي إن هؤلاء هم أهلها ، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلام : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ، وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة ، وقد بسطته في كتاب " إيضاح السبيل من حديث سؤال جبريل " ، فمن هذا القبيل عندي - والله أعلم - قوله تعالى : { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } أي إن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه ، وعدم الحض على إطعامه ، والسهو عن الصلاة ، والمراءاة بالأعمال ، ومنع الحاجات ، إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء ؛ لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك ، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور ، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها ، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها ، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه ، فمن تشبه بقوم فهو منهم ، فاحذروا هذه الرذائل ، فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل ، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده ، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر ، والشغل بالأموال والأولاد ، فنهى عباده عن هذه الرذائل التي يثمرها ما تقدم ، والتحمت السور . انتهى .