الخالق : المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة .
البارئ : أي : المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها ، والغرض الذي خلقت له .
المصور : أي : الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد .
الأسماء الحسنى : أي : الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود ، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته ، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف .
24- { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
هو المعبود الخالق ، المبدع للأشياء على غير مثال سابق ، والذي يصور المخلوقات في أحسن الصور . وهذه بعض أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه ، وكل شيء في السماوات والأرض يسبح له وينزهه ، مفصحا بلسان مقاله أو مشيرا بلسان حاله : وإن مِّن شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . ( الإسراء : 44 ) .
1- إن تجربة إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير عن المدينة إلى خيبر ، ثم إلى الشام ، في السنة الرابعة من الهجرة ، كانت تجربة ضرورية ، إبعادا للدسائس والمكايد والفتن عن معقل الإسلام الحديث ، وقد كان بنو النضير بعد غزوة بدر قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يلزموا الحياد بينه وبين قريش ، ثم نقضوا ذلك العهد ، وخالفوا ما عاهدوا عليه في غزوة أحد ، ثم حاولوا قتل النبي بإلقاء رحى عليه من سطح منزل لهم ، حين ذهب إليهم ليفاوضهم في تحمل بعض ديات القتلى من بني عامر ، فأطلعه الله على سوء نيتهم ، وعاد إلى المدينة ، فأذن الله له في إجلائهم عن ديارهم ، فأمرهم بالجلاء ، وهو الحشر الأول ، فتمنعوا منه في حصن البويرة ، فحاصرهم في ست ليال ، ثم صالحوه على الجلاء ، على أن له أموالهم وبيوتهم ، ولهم ما تحمل الإبل فكانوا يخربون البيوت قبل أن يخرجوا منها ، ويأخذون معهم ما تستطيع الإبل حمله .
وقد كانت محالفة بني النضير قريشا ونصرتهم على النبي في غزوة أحد ، عملا سياسيا يدل على قصر نظر اليهود وغباوتهم ، فقد حسبوا أن في ذلك قضاء على الإسلام وهو لا يزال في مهده ، ولم يحسبوا أن المدينة كانت مركز القوة الإسلامية المتحمسة ، وفيها الرسول وكبار أصحابه من المهاجرين الأنصار ، وهي أقرب إلى قرى اليهود من مكة ، التي فيها كفار قريش حلفاء اليهود ، فهم إذن لا يأمنون صولة أهل المدينة بهم إذا هم أحدثوا حدثا يؤذي جماعة المسلمين . أما ما كان بينهم وبين منافقي أهل المدينة من حلف ومودة ، فقد تبين لهم بعد الجلاء أنه لم يكن إلا أحاديث سمر ، لا معول عليها إذا جد الجد ، ودنا منهم الخطر ، أو كأنه كما قال تعالى : { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } . ( النور : 39 ) .
والعبرة المستفادة من قصة جلاء بني النضير عن ديارهم إلى خيبر ثم إجلائهم جميعا إلى أرض المحشر بالشام ، أن هذا الجلاء قد تم على حين غفلة ، وبسرعة لم يكن المسلمون ولا اليهود يحسبون أنه يتم بمثلها ، لأن اليهود كانوا أهل حلقة ( سلاح ) وأهل حصون يتمنعون فيها عند الخطر ، أشهرها : البويرة والوطيح والسلالم ونطاة والكتيبة . فلذلك قال الله تعالى : { مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ . } ( الحشر : 2 ) .
ولكن عناية الله بأمر دينه وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الصادقي الإسلام ، ملأت قلوب اليهود رعبا وفزعا ، فأذعنوا للجلاء ، ورضوا بالخروج ، وفي ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبر .
أما الحشر الثاني فهو ما كان في خلافة عمر بن الخطاب الذي أجلى جميع اليهود والنصارى عن جزيرة العرب ، وقال في ذلك كلمته الحكيمة الرائعة : ( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ) .
2- في صدر الإسلام ، وفي دولة الراشدين ، والدولتين الأموية والعباسية ، صورة رائعة من رعاية الطبقات الفقيرة من المهاجرين والأنصار ، وذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم ، واليتامى الذين لا مال لهم ولا عائل لهم ، والمساكين وابن السبيل .
فقد جعل الإسلام لهذه الأصناف من الضعفاء حقوقا ثابتة في الفيء ، وفي غنائم الفتح والانتصار على الأعداء .
فأما الفيء فهو ما عاد إلى المسلمين من الأموال والخيل والسلاح والرقيق ، بدون أن يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، كأموال بني النضير ، وحكمه أن يئول كله على الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي منه من يشاء ، ويحفظ منه القليل لنفقة أهله وعياله مدة عام . وقد ردّ النبي صلى الله عليه وسلم أكثر أموال بني النضير على فقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من مكة دارهم ، ونُهبت أموالهم وثرواتهم بأيدي أعداء الإسلام فكانوا يأكلون مال من ليس له بمكة أسرة قوية تدافع عن أهله ، وتحافظ على ماله . وإلى ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الاستيلاء على فيء بني النضير ، وتصرفه فيه على ما يراه من مصلحة المسلمين ، تشير الآية الكريمة من هذه السورة : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ( الحشر : 6 ) . ومثل ذلك كل فيء أفاء الله على رسوله كأموال خيبر وفدك من قرى اليهود .
أما الغنائم التي يغنمها المسلمون من أعدائهم بإيجاف الخيل والركاب ، وبالقتل والقتال ، فإنها كانت تُخمس خمسة أخماس :
خمس منها : لله والرسول وذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأربعة الأخماس الباقية تُقسم على المقاتلين .
والذي يُقسم بينهم كلّ شيء يمكن نقله من مكان إلى مكان مثل : الدراهم والدنانير ، والخيل والإبل ، والسلاح ، دون الرقيق والأرض ، فإن لهما حكما خاصا .
والخمس الذي جُعل لله ورسوله ومن سماهم الله في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . . }( الأنفال : 41 ) .
فالذي لله يُنفق على إنشاء أو إصلاح المرافق العامة كالمساجد .
والذي للرسول يُجعل في نفقته ونفقة عياله وأزواجه ، وما يطرأ عليه من ضيف أو غرم في دية أو نحو ذلك .
وأما سهم ذوي القربى ، فيُصرف إلى بني هاشم وبني المطلب ، لأنهم منعوا أن يأكلوا من مال الصدقات . ( الزكاة ) .
وأما سهم اليتامى فيصرف لمن لا مال له منهم ، أو لمن له مال ولا يمكنه الوصي منه .
وأما سهم المساكين فيُصرف للفقير الذي ليس عنده قوت يومه ، وللعاجز الذي أقعدته الزمانة والسن عن مزاولة العمل لكسب قوته .
وأما سهم ابن السبيل ، فيُعان منه المسافر والغريب الذي نفذ ماله وزاده ، وهو لا يجد مالا يستطيع به العودة إلى بلاده وأهله الذين انقطع عنهم .
هذه صورة من أعمال البر التي كفلها الإسلام للفقراء في غنائم الحروب ، لتحقيق العدل الاجتماعي الذي عبّر عنه القرآن بقوله : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ . . . }( الحشر : 7 ) . أي : حتى لا يكون المال متداولا بين أغنيائكم وذوي القدرة على شهود المعارك والحروب ، على حين يحرم منه الضعفاء والعجزة الذين لا يستطيعون إلى شهود الحروب والمعارك سبيلا .
فأين هذه الصورة المشرقة من رعاية حقوق الفقراء في الدولة الإسلامية الناشئة ، من تلك الصورة القاتمة التي كانت للفقراء في المجتمع المكي القديم البالي ، الذي أنكر المتكبرون فيه حقوق الضعفاء والفقراء والعجزة واليتامى والمساكين ، فوبخهم الله على ذلك وذمهم بقوله تعالى : { كلاّ بل لا تكرمون اليتيم*ولا تحاضّون على طعام المسكين*وتأكلون التّراث أكلا لمّا*وتحبون المال حبّا جمّا } . ( الفجر : 17-20 ) .
ويقول تعالى : { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } . ( البلد : 11-18 ) .
ومن الأموال العامة التي تقسم بين الناس أموال الخراج والصدقات ، وهي الزكاة ، فإن إمام المسلمين يتولى جمعها وتقسيمها على أصناف مخصوصين بينتهم الآية الكريمة في سورة التوبة : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . ( التوبة : 60 ) .
ولن تبرأ علل المجتمعات أو تتحسن صورتها ، إلا إذ اشتدت الرعاية بشئون الفقراء ، واهتم الأغنياء بصرف حقوق الفقراء في الزكاة والصدقات ، ومضاعفة ضروب البرّ والتبرعات ، حتى نمسح آثار الفقر والمسكنة ، ونُقوي أواصر الترابط والتعاون بين طبقات الأمة ، لتصبح يدا واحدة ، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا .
قال تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . . . }( الحديد : 7 ) .
وقال سبحانه وتعالى : { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } . ( الذاريات : 19 ) .
أورد الإمام ابن كثير أسماء الله الحسنى في تفسيره ، وكذلك أ . د محمد سيد طنطاوي نقلا عنه ، وكذلك أ . د وهبة الزحيلي في التفسير المنير فقال ما يأتي :
ويحسن ذكر الحديث المروى في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " .
ورواه أيضا الترمذي وابن ماجة بالزيادة التالية ، وأذكر هنا لفظ الترمذي :
" هو الله لا إله إلا هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحَكَم ، العَدْل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المغيث ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصّمد ، القادر ، المقتدر ، المقدِّم ، المؤخِّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البَرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المُقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور " xv
تم بحمد الله تفسير سورة ( الحشر ) سنة 1985م ، وأضيفت إلى التفسير سنة 1421 ه الموافق 2001م .
i انظر تفسير النسفي : 4-179 ، وكتب التفسير والسيرة .
ii نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ص 127 .
iii الوجيف : سرعة السير . والركاب : ما يركب من الإبل .
iv حمل بعضهم عليه الآية ( 16 ) من سورة الحشر ، حيث استدرجه الشيطان إلى المعصية ثم إلى الشرك ثم تخلى عنه ، وذلك أن الشيطان ذهب إلى بنت فخنقها حتى مرضت ، ثم أفهم أهلها أن شفاءها عند ذلك العابد ، فتركها أهلها عنده في صومعته ليرقيها ، فلما شفيت وسوس له الشيطان حتى ارتكب معها الفحشاء ، فلما انكشف أمره أُخذ ليُصلب فطلب منه الشيطان أن يسجد له حتى ينجو من الصلب ، فسجد للشيطان ثم مات كافرا .
v الأنواء : الأمطار ، والنوء : المطر .
vii سمحة : الملة الميسرة . قال صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفة السمحة " .
xi أخرجه في : 65 كتاب التفسير ، 59 سورة الحشر ، 1 – باب الجلاء من أرض إلى أرض ، حديث رقم 1869 .
xiii تفسير سورة الحشر ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية .
xiv تفسير القرآن الكريم ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية .
xv إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها :
رواه البخاري في الشروط ( 2736 ) وفي التوحيد ( 7392 ) ومسلم في الذكر ( 2677 ) والترمذي في الدعوات ( 3506-3508 ) وابن ماجة في الدعاء ( 3860 ) وأحمد في مسنده ( 7450 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة " . ورواه الترمذي في الدعوات ( 3507 ) وابن ماجة في الدعاء ( 3861 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة ، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار . . . " الحديث . وقال أبو عيسى : هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح ، وهو ثقة عند أهل الحديث ، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نعلم في كبير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ، وقد روى آدم بن أبي إياس غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء ، وليس له إسناد صحيح .
الخالق : الموجِد للأشياء على مقتضى الحكمة .
البارئ : المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها ، والغرض الذي وجدت له .
المصوِّر : موجد الأشياء على صورها ومُختلف أشكالها كما أراد .
الأسماء الحسنى : الأسماء الدالّة على المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود ، فنظم الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته .
فهو الإله الذي لا ربَّ غيره { لَهُ الأسمآء الحسنى } يسبّح له ما في السموات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم .
{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ } لجميع المخلوقات { الْبَارِئُ } للمبروءات { الْمُصَوِّرُ } للمصورات ، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير ، وأن ذلك كله قد انفرد الله به ، لم يشاركه فيه مشارك .
{ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : له الأسماء الكثيرة جدا ، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا الله هو ، ومع ذلك ، فكلها حسنى أي : صفات كمال ، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها ، لا نقص في شيء منها بوجه من الوجوه ، ومن حسنها أن الله يحبها ، ويحب من يحبها ، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها .
ومن كماله ، وأن له الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، أن جميع من في السماوات والأرض مفتقرون إليه على الدوام ، يسبحون بحمده ، ويسألونه حوائجهم ، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الذي لا يريد شيئا إلا ويكون ، ولا يكون شيئا إلا لحكمة ومصلحة .
قوله تعالى : { سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق } المقدر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره ، كما قال : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق }( الزمر- 6 ) ، { البارئ } المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ، { المصور } الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض . يقال : هذه صورة الأمر أي مثاله ، فأولاً يكون خلقاً ثم برءاً ثم تصويراً . { له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا أحمد بن أبي شريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا أنبأنا أبو أحمد الرمادي ، قالا : أنبأنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا خالد بن طهمان ، حدثني نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يصبح -ثلاث مرات- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة " . ورواه أبو عيسى عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري بهذا الإسناد ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الله الخالق} يعني خالق كل شيء خلق النطفة والمضغة،
ثم قال: {البارئ} الأنفس حين يراها بعد مضغة إنسانا فجعل له العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين،
ثم قال: {المصور} في الأرحام، كيف يشاء ذكر وأنثى، أبيض وأسود، سوى وغير سوى،
ثم قال: {له الأسماء الحسنى} يعني الرحمن الرحيم العزيز الجبار المتكبر، ونحوها من الأسماء...
ثم قال: {يسبح له ما في السماوات والأرض} يعني يذكره ويوحده ما في السماوات والأرض وما فيها من الخلق وغيره.
{وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في أمره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق، فأوجدهم بقدرته، المصوّر خلقه كيف شاء، وكيف يشاء.
وقوله: "لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى" يقول تعالى ذكره: لله الأسماء الحسنى، وهي هذه الأسماء التي سمى الله بها نفسه، التي ذكرها في هاتين الآيتين.
"يُسَبّحُ لَهُ ما في السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول: يسبح له جميع ما في السموات والأرض، ويسجد له طوعا وكرها.
"وَهُوَ العَزِيزُ" يقول: وهو الشديد الانتقام من أعدائه.
"الْحَكِيمُ" في تدبيره خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هو الله الخالق البارئ المصور} فالخالق والبارئ واحد، ويقال: برأ أي خلق، والبرية هي الخلق، ويقال: سميت البرية لأنها خلقت من التراب؛ إذ البرى، هو التراب.
{المصور} هو الذي يعطي كل شيء صورته، فيصوره على ما هو، فالتصوير، هو بيان المحدود.
{له الأسماء الحسنى} أي الأمثال العلا، أي لا يسمى بذلك إلا هو.
ويحتمل وجها آخر؛ أي لا شبيه له في أسمائه، ولا يشركه أحد في تلك الأسماء، بل هي خاصته.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{الْخَالِقُ} المقدّر المقلّب للشي بالتدبير الى غيره كما قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] وقال: {خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح: 14] المنشئ للأعيان من العدم الى الوجود.
{الْمُصَوِّرُ} الممثل للمخلوقات والعلامات المميّزة والهيئات المتفرّقة حتى يتميّز بها بعضها من بعض؛ يقال: هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقاً ثم (نطفة ثمّ علقة) ثم تصويراً إذا انتهى وكمل، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: المميز للخلق، ومنه قوله: برأت منه، إذا تميزت منه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«والبارئ» المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {له الأسماء الحسنى} أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو، وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»، وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة، واختلف في بعضها، ولم يصح فيها شيء إلا إحصاؤها دون تعين.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
و {المصور}: الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها: ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل.
{هو الله الخالق} والخلق هو التقدير معناه أنه يقدر أفعاله على وجوه مخصوصة، فالخالقية راجعة إلى صفة الإرادة. ثم قال: {البارئ} وهو بمنزلة قولنا: صانع وموجد إلا أنه يفيد اختراع الأجسام، ولذلك يقال في الخلق: برية ولا يقال في الأعراض التي هي كاللون والطعم. وأما {المصور} فمعناه أنه يخلق صور الخلق على ما يريد، وقدم ذكر الخالق على البارئ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة. وقدم البارئ على المصور، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} الخلق: التقدير، والبَراء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز وجل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة. (هو الله).. فهي الألوهية الواحدة. وليس غيره بإله. (الخالق).. (البارئ).. والخلق: التصميم والتقدير. والبرء: التنفيذ والإخراج، فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق..
(المصور). وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها. ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة. وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق، يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة -حسب التصور الإنساني- فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات. وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله. إنما نحن ندرك شيئا من آثارها هو الذي نعرفها به في حدود طاقاتنا الصغيرة!
(له الأسماء الحسنى).. الحسنى في ذاتها. بلا حاجة إلى استحسان من الخلق ولا توقف على استحسانهم...
والحسنى التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها. وهي الأسماء التي يتدبرها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها، إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف بها. وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها.
وخاتمة هذه التسبيحة المديدة بهذه الأسماء الحسنى، والسبحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضها العجيبة، هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود، وينبعث من كل موجود: "يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم".. وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء؛ ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء.. كما يتلاقى فيه المطلع والختام. في تناسق والتئام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الله الخالق} تفيد قصراً بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق، لا شركاؤهم. وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق. قال تعالى: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} [النحل: 20]، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17]،
و {الخالق}: اسم فاعل من الخلق، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصه. وقد تقدم عند قوله ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو إيجاد ما لم يكن موجوداً. كقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق: 38]. وهذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم الله تعالى {الخالق}.
و {المصور}: مكوّن الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية. وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإِبداع الإلهي للإِنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإِيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإِنسان ثم بالتصّور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة، كما أشار إليه قوله تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة} [الانفطار: 7، 8]، {الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6]. ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإِشارة إلى تصرفه في البشر بالإِيجاد على كيفيته البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك. ولذلك عقب بجملة {يسبح له ما في السموات والأرض}.
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحُسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفاً.
القسم الأول: يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافِهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين. وإلى هذا القسم تنضوي صفة {لا إله إلا هو} [الحشر: 23] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات، فإن الإِشراك أصل الضلالات، والمشركون هم الذين يُغرون اليهود، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإِسلام، فالشرك هو الذي صدّ الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى، قال تعالى: {وما زادوهم غيرَ تتبيب} [هود: 101]. وصفة {عالم الغيب} [الحشر: 22] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة. وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الأنفال: 13] الآية. وكذلك ذكر صفات « المَلِك، والعزيز، والجبار، والمتكبر»، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.
القسم الثاني: متعلق بما اجْتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير، وتلك صفات: {السلام المؤمن} [الحشر: 23] لقوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6]، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالاً. وكذلك صفتا {الرحمان الرحيم} [الحشر: 22] لمناسبتهما لإِعطاء حظ في الفيء للضعفاء.
القسم الثالث: متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها، وهي صفات: « القدوس، المهيمن، الخالق، البارئ، المصور».
{لَهُ الأسمآء الحسنى}. تذييل لما عُدّد من صفات الله تعالى، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفاً. والمراد بالأسماء الصفات، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالأعلام على ذاته تعالى. والمقصود: أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: {ثم عرضهم على الملائكة} بعد قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، أي عرض المسميات على الملائكة.
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}. جملة {يسبح له} الخ في موضع الحال من ضمير {له الأسماء الحسنى} يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد.
وجملة {وهو العزيز الحكيم} عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق. وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولأنّ صفات الله لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية، فإنّه سبحانه يشير إلى صفة أساسية لذاته المقدّسة اللامتناهية، حيث يقول عزّ وجلّ: (له الأسماء الحسنى). ولهذا السبب فإنّه سبحانه منزّه ومبرّأ من كلّ عيب ونقص (يسبّح له ما في السماوات والأرض) ويعتبرونه تامّاً وكاملا من كلّ نقص وعيب. وأخيراً للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة يشير سبحانه إلى وصفين آخرين من صفاته المقدّسة، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى: (وهو العزيز الحكيم). الأولى دليل كمال قدرته على كلّ شيء، وغلبته على كلّ قوّة. والثانية إشارة إلى علمه واطّلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود وتدبير الحياة. وبهذه الصورة فإنّ مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة التوحيد التي تكرّرت مرّتين، فإنّ مجموع الصفات المقدّسة لله سبحانه تكون سبع عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل: 1 عالم الغيب والشهادة. 2 الرحمن. 3 الرحيم. 4 الملك. 5 القدّوس. 6 السلام. 7 المؤمن. 8 المهيمن. 9 العزيز. 10 الجبّار. 11 المتكبّر. 12 الخالق. 13 البارئ. 14 المصوّر. 15 الحكيم. 16 له الأسماء الحسنى. 17 الموجود الذي تسبّح له كلّ موجودات العالم. ومن بين مجموع هذه الصفات فإنّنا نلاحظ تنظيماً خاصّاً في الآيات الثلاث وهو: في الآية الأولى يبحث عن أعمّ صفات الذات وهي (العلم) وأعمّ صفات الفعل وهي (الرحمة) التي هي أساس كلّ أعماله تعالى. وفي الآية الثانية يتحدّث عن حاكميته وشؤون هذه الحاكمية وصفاته ك (القدّوس والسلام والمؤمن والجبّار والمتكبّر) وبملاحظة معاني هذه الصفات المذكورة أعلاه فإنّ جميعها من خصوصيات هذه الحاكمية الإلهية المطلقة. وفي الآية الأخيرة يبحث مسألة الخلق وما يرتبط بها من انتظام في مقام تسلسل الخلقة والتصوير، وكذلك البحث في موضوع القدرة والحكمة الإلهية. وبهذه الصورة فإنّ هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة الله، وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل، حيث تبدأ الآيات أوّلا بالحديث عن ذاته المقدّسة، ومن ثمّ إلى عالم الخلقة، وتارةً أخرى بالسير نحو الله تعالى، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدّسة، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف، حيث تنمو براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده، وتجعله لائقاً لقرب جواره لكي يكون وجوداً منسجماً مع كلّ ذرّات الوجود، مردّدين معاً ترانيم التسبيح والتقديس.
ـ التأثير الخارق للقرآن الكريم: إنّ لتأثير القرآن الكريم في القلوب والأفكار واقعية لا تنكر، وعلى طول التاريخ الإسلامي لوحظت شواهد عديدة على هذا المعنى، وثبت عملياً أنّ أقسى القلوب عند سماعها لآيات محدودة من القرآن الكريم تلين وتخضع وتؤمن بالذي جاء بالقرآن دفعةً واحدة، اللهمّ عدا الأشخاص المعاندين المكابرين فقد استثنوا من ذلك حيث طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، وليس هنالك من أمل في هداية نفوسهم المدبِرة عن الله سبحانه. ونقرأ في الآيات أعلاه العرض الرهيب الذي يصوّر نزول القرآن على جبل، وما هو الأثر سيحدثه حيث الخضوع والتصدّع والخشوع، وهذه كلّها دليل تأثير هذا الكلام الإلهي الذي نحسّ بحلاوة طعمه عند التلاوة المقرونة بحضور القلب. 2 ـ عظمة الآيات الأخيرة لسورة الحشر: إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة ـ التي اشتملت على قسم مهمّ من الأسماء والصفات الإلهية ـ آيات خارقة وعظيمة وملهمة، وهي درس تربوي كبير للإنسان، لأنّها تقول له: إذا كنت تطلب قرب الله، وتريد العظمة والكمال.. فاقتبس من هذه الصفات نوراً يضيء وجودك. والخلاصة أنّ الروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة... وتدلّ جميعها على عظمة هذه الآيات ولزوم التفكّر في محتواها. والجدير بالملاحظة أنّ هذه السورة كما أنّها بدأت بتسبيح الله واسمه العزيز الحكيم، فكذلك انتهت باسمه العزيز الحكيم، إذ أنّ الهدف النهائي للسورة هو معرفة الله وتسبيحه والتعرّف على أسمائه وصفاته المقدّسة.
قوله تعالى : { هو الله الخالق البارئ المصور } { الخالق } هنا المقدر . و " البارئ " المنشئ المخترع . و " المصور " مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفة . فالتصوير مرتب على الخلق والبراية{[14884]} وتابع لهما . ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل . وخلق الله الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خلق : جعله علقة ، ثم مضغة ، ثم جعله صورة وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها . فتبارك الله أحسن الخالقين . وقال النابغة :
الخالق البارئ المصور في ال*** أرحام ماءً حتى يصير دمَا
وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير ، وليس كذلك ، وإنما التصوير آخرا والتقدير أولا والبراية بينهما . ومنه قول الحق : " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير{[14885]} " [ المائدة : 110 ] . وقال زهير :
ولأنتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبع *** ض القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي
يقول : تقدم ما تقدر ثم تفريه ، أي تمضيه على وفق تقديرك ، وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده ، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده . وقد أتينا على هذا كله في " الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " والحمد لله . وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ " البارئ المصور " بفتح الواو ونصب الراء ، أي الذي يبرأ المصور ، أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات . ذكره الزمخشري .
{ له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } تقدم الكلام فيه{[14886]} . وعن أبي هريرة قال : سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال : ( يا أبا هريرة ، عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها ) فأعدت عليه فأعاد علي ، فأعدت عليه فأعاد علي . وقال جابر بن زيد : إن اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية . وعن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) . وعن أبي أمامة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة ) .
قوله : { هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى } الخالق ، من الخلق ومعناه التقدير{[4509]} فالله الذي يقدر الأشياء على نحو ما يشاء . وهو سبحانه { البارئ } يعني المنشئ الموجد . وهو { المصور } من التصوير وهو التخطيط والتشكيل . فالمصور الذي يجعل صور الخلق على هيئات مختلفة ، { له الأسماء الحسنى } وهي الأسماء التي سمى الله بها نفسه . وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعا وتسعين اسما ، مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة . وهو وتر يحب الوتر " .
قوله : { يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } كل شيء في الوجود يسبح بحمد الله فينزهه عن النقائص والعيوب . وهو سبحانه { العزيز الحكيم } أي القوي الذي لا يغلب ، والحكيم في أفعاله وأقواله وتدبير خلقه{[4510]} .