التحذير من فتنة الأزواج والأولاد
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 ) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 15 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 16 ) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ( 17 ) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 ) }
فاحذروهم : فكونوا منهم على حذر ، ولا تطيعوهم .
وتصفحوا : تُعرضوا عن التّعيير والتأنيب .
تغفروا : تستروا ذنوبهم وإساءاتهم .
14- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
نداء إلهي علوي إلى جميع المؤمنين ، محذرا ومبينا أن بعض الأزواج وبعض الأولاد يحملون أزواجهم وآباءهم على بيع ثوابهم وآخرتهم ، وجنات ربهم ، وشراء عرض الحياة الدنيا .
فقد تُزين الزوجة لزوجها ترك الجهاد ، أو ترك الزكاة أو الصدقة ، أو المساهمة في عمل خير ، أو ترك حقوق ضرتها ، وعدم إعطائها حقها ، فيطيع الزوج زوجته ، والطاعة لا تكون إلا في المعروف ، وقد يطلب الابن طلبا غير متيسر لأبيه من طرق الحلال ، فربما ارتكب السرقة أو الرشوة ، أو أخذ المال الحرام أو الشبهات في سبيل مرضاة الابن .
لذلك حذرنا القرآن من طاعة الزوجة التي تأمر بالمنكر ، ومن طاعة الولد الذي يُحرض أباه على الحرام ، قال تعالى : { فَاحْذَرُوهُمْ } . أي : كونوا على حذر من طلبات لا تتفق مع مرضاة الله ، وأوامر رسوله وتشريع دينه .
{ وَإِنْ تَعْفُوا } . عن ذنوبهم ، وتتجاوزوا عن سيئاتهم التي تقبل العفو ، أو الأخطاء التي أعقبتها توبة من الزوجة أو الأولاد .
وَتَصْفَحُوا . تعرضوا عن التعبير والتأنيب واللوم .
وَتَغْفِرُوا . تسامحوهم ، وتأخذوا بأيديهم وتساعدوهم على معذرتهم وتوبتهم ، واستقامتهم وسلوكهم المستقيم .
{ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فإن من صفات الله المغفرة ، وستر الذنوب ، وقبول التوبة ، ومحو السيئات ، فتخلقوا بأخلاق الإسلام ، وسامحوا أزواجكم وأولادكم ، حتى يسامحكم الله ويغفر لكم .
بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول الكريم ، وأن يتوكلوا عليه ، ولا يعتمدوا غير ذلك ، جاء هنا في هذه الآية الكريمة يهذّبهم ويعلّمهم بألطف توجيه ، أنَّ الأولادَ والزوجات فتنة للإنسان إذا ما شُغل بهم وانصرف يجمع المالَ لهم ويكدّسه ، لا همّ له إلا النفقة عليهم ، باتَ مثل الحيوان في الغاب ، فان الأسد يفترسُ حتى يطعم عياله ، وكذلك بقية الحيوانات .
فالله تعالى يهذّبنا ويعلّمنا بأنّ علينا أن نُعِين المحتاجين ، ونعمل الخيرَ ونساعدَ في أعمال البرّ وبناء مجتمعنا ، فلا نعيش لأنفسنا فقط .
{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم }
فارعوهم حق الرعاية ، وأدِّبوهم أحسنَ تأديب ، واحذروا أن يخرج بعضهم عن الطاعة ، وتلطّفوا معهم . ولذلك قال :
{ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
ما أرحمه وما أعظمه ! كيف يعلّمنا ويهذبنا ، بأن نكون هيّنين ليّنين مع أولادنا وأزواجنا وبذلك تتم السعادة .
وإن كثيراً من الناس يكونون في البيت مصدَر شرٍّ وإزعاج لزوجاتهم وأولادهم ، وفي خارج البيت من ألطفِ الناس وأرحَبِهم صدراً ، هؤلاء شرٌّ من الحيوانات .
{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، من الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه{[1128]} والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي{[1129]} ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية ، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك ، من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل .
فمن عفا عفا الله عنه ، ومن صفح صفح الله عنه ، ومن غفر غفر الله له ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ، نال محبة الله ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
ولما كانت أوامر الدين تارة تكون باعتبار الأمر الديني من سائر الطاعات المحضة ، وتارة باعتبار الأمر التكويني وهو ما كان بواسطة مال أو أهل أو ولد ، أتم سبحانه القسم الأول في الآيتين الماضيتين ، شرع في الأمر الثاني لأنه قد ينشأ عنه فتنة في الدين وقد ينشأ عنه فتنة في الدنيا ، ولما كانت الفتنة{[65842]} بالإقبال عليه والإعراض عنه أعظم الفتن ، لأنها تفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وابنه وتذهل الخليل عن خليله - كما شوهد ذلك في بدء الإسلام ، وكان أعظم ذلك في الردة ، وكان قد تقدم النهي عن إلهاء الأموال والأولاد ، وكان النهي عن ذلك في الأولاد نهياً عنه في الأزواج بطريق الأولى ، فلذلك اقتصر عليهم دون الأزواج ، وكان المأمور بالتوكل ربما رأى أن تسليم قياده لكل أحد لا يقدح في التوكل ، أشار إلى أن{[65843]} بناء هذه الدار على الأسباب مانع من ذلك فأمر بنحو " اعقلها وتوكل " " واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " الحديث ، فقال جواباً عن ذلك لمن يحتاج إلى السؤال عن مثله مبيناً للأوامر بالاعتبار للامتحان التكويني وإن كان أولى الناس ببذل الجهد في تأديبه وتقويمه وتهذيبه أقرب الأقارب وألصق الناس بالإنسان وهو كالعلة لآخر " المنافقون " : { يا أيها الذين آمنوا } ولما كان الأزواج أقرب عداوة من الأولاد قدمهن ، فقال مؤكداً لمن يستبعد ذلك : { إن من أزواجكم } وإن أظهرن غاية المودة { وأولادكم } وإن أظهروا أيضاً{[65844]} غاية {[65845]}الشفقة و{[65846]}الحنان { عدواً لكم } أي لشغلهم لكم عن الدين أو{[65847]} لغير ذلك من جمع المال وتحصيل الجاه لأجلهم والتهاون بالنهي عن المنكر فإن الولد مجبنة وغير ذلك{[65848]} ، قال أبو حيان{[65849]} رحمه الله تعالى : ولا أعدى على الرجل من زوجه وولده إذا كانا عدوين وذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فبإذهاب ماله -{[65850]} كما هو معروف{[65851]} - وعرضه ، وأما في الآخرة فيما يسعى في اكتسابه{[65852]} من الحرام لأجلهم وبما يكسبانه منه بسبب جاهه .
فالرجل من رأى ذلك نعمة من الله فجعله معيناً{[65853]} له على طاعته لا قاطعاً ومعوقاً عما يرضيه بأن يلتهي{[65854]} بمحبته وعداوته وبغضته . ولما أخبر عن العداوة ، عبر بما قد يفهم الواحد فقط تخفيفاً ، ولما أمر بالحذر جمع إشارة إلى زيادة التحذير والخوف من كل أحد ولو كان أقرب الأقرباء لأن الحزم سوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط ، فسبب عن الإخبار بالعداوة الأمر بالحذر{[65855]} في قوله : { فاحذروهم } أي بأن تتقوا الله في كل أمرهم فتطلبوا في السعي عليهم الكفاف من حله وتقتصروا عليه ، ولا يحملنكم حبهم{[65856]} على غير ذلك ، وليشتد حذركم منهم بالعمل بما أمر الله حتى في العدل بينهم لئلا يتمكنوا من أذاكم فيعظم بهم الخطب ويكون فاتناً لكم في الدين إما بالردة - والعياذ بالله تعالى - أو بالشغل عن الطاعة أو بالإقحام في المعصية ومخالفة السنة والجماعة .
ولما كان قد يقع منهم ما يؤذي مع الحذر لأنه لا يغني من قدر أو مع الاستسلام ، وكان وكل المؤذي إلى الله أولى وأعظم في الاستنصار ، قال مرشداً إلى ذلك : { وإن تعفوا } أي توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك لأن من طبع على شيء لا يرجع ، وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه سبحانه لئلا يكون سبباً للو المنهي عنه .
ولما كان الرجوع عن الحظوظ صعباً جداً ، أكد سبحانه فقال : { وتصفحوا } أي بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان { وتغفروا } أي{[65857]} بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً{[65858]} للعين والأثر بالتجاوز بعد ترك العقاب عن العتاب ، فلا يكون منكم اشتغال بعداوتهم{[65859]} ولا ما قد يجرها عما ينفع من الطاعة ، ولما كان التقدير : يغفر الله لكم ، سبب عنه قوله : { فإن الله } أي الجامع لصفات الكمال { غفور } أي بالغ المحو {[65860]}لأعيان الذنوب وآثرها{[65861]} جزاء لكم على غفرانكم لهم وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم لهم فإنه { رحيم * } يزيدكم بعد ذلك الستر الإكرام بالإنعام إن أكرمتموهم ، فتخلقوا بأخلاقه سبحانه يزدكم{[65862]} من فضله .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم 14 إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم 15 فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 16 إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم 17 عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } .
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : كان الرجل يسلم فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا : ننشدك الله أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال ، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم ولا يهاجر . فأنزل الله هذه الآية .
وذكر عن ابن عباس أيضا قوله : هؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس قد فقهوا في الدين ، همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم فأنزل الله { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } {[4556]} فإن الله جل جلاله يحذر عباده المؤمنين الافتتان بالأزواج والأولاد والأهل والعشيرة . فإذا ما اعتزم المؤمنون الأوفياء أن يمضوا لأمر الله في هجرة أو جهاد أو غير ذلك من وجوه التضحية وقف في وجوههم الأزواج والأولاد والأهل والعشيرة ليصدوهم عن ذلك أو يثنوهم ويثبطوهم عما هم ماضون فيه من طاعة الله . وما ينبغي للمسلم الوفي الصادق الذي سلك سبيل الرحمان والتزم منهج الحق أن تثنيه نداءات الأهل والعشيرة أو الأصدقاء والخلان . إنما ينبغي للمسلم الصادق الذي يدعو إلى الله على بصيرة ، أن يمضي لأمر الله غير مضطرب ولا متزعزع ولا متحرّج .
وهو قوله سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } عدواة الأزواج والأولاد للرجال والآباء بصدهم عن سبيل الله وبفتنهم عن دينه وتثبيطهم عن طاعته . وبذلك يحذر الله المؤمنين أن يفتنهم الأزواج والأولاد أو يضلوهم عن صراط الله المستقيم وعن منهجه القويم الحكيم ، إنه لا ينبغي لمؤمن وفيّ صادق أن يغتر بنداء الأهل وأولي القربى إذا ما أرادوا له أن يثني عن عبادة الله وطاعته . وكذلك عداوة الأزواج والأولاد للزوجات والآباء بإغوائهم أو صدهم عن دين الله أو تثبيطهم عن القيام بطاعة الله . فما ينبغي لامرأة مسلمة صادقة تخشى الله أن تعبأ بإغواء زوجها أو تثبيطه لها إذا ما أراد أن يفتنها أو يضلها عن سبيل الله المستقيم . وما ينبغي للأب كذلك أن يحمله الحنين للولد على الجنوح والانثناء عن دين الله وعن منهجه الكريم .
قوله : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } كان الرجل إذا ثبّطه أزواجه وأولاده عن الهجرة ورأى الناس قد سبقوه إليها وتفقهوا في دينهم سخط منهم لتثبيطهم إياه ، فهمّ أن يعاقبهم أو يوبخهم ، فأرشده الله إلى أن يعفو عما اقترفوه من صدّه عن الطاعة . فيصفح عن معاقبتهم ويستر عليهم إساءتهم فلا يعنفهم أو يبكّتهم { فإن الله غفور رحيم } الله يستر على ذنوب عباده وهو بهم رحيم فلا يعاقبهم عقب توبتهم .