تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

5- فجعلهم كعصف مأكول .

العصف : ورق زرع يبقى بعد الحصاد .

مأكول : أكلته الدواب وداسته وأفتّته .

فجعلهم كزرع مأكول ، كان ناضرا مترعرعا ، فأكلته الدواب ، فانتهت حياته .

وقال آخرون :

فجعلهم فضلات وبقايا ، مثل ورق الزرع أو الشجر إذ أكلته الدواب ، ثم أخرجته روثا متفتتا . والمراد أن الله أهلكهم عن آخرهم .

ختام السورة:

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب )viii .

قال ابن إسحاق : لما ردّ الله الحبشة عن مكة ، عظّمت العرب قريشا ، وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوّهم ، فكان ذلك نعمة من الله عليهم .

إيحاء السورة

ظهر أن العرب لم يكن لهم وجود قوي قبل الإسلام ، فاليمن كانت تحت حكم الأحباش ، والشام كانت تحت حكم الرومان ، أو تحت حكم دولة عربية موالية للرومان .

أما جزيرة العرب فقد كانت قبائل متعددة متفرقة ، ولم يكن لها وزن دولي ، سواء كانت مجتمعة أو متفرقة .

ولم تكن لدى العرب فكرة عالمية غير الإسلام ، فلما جاء الإسلام على يد نبي عربي أمّي قاوموه ، ثم انضموا تحت لوائه ، وجاهدوا في سبيل الله تحت لواء الإسلام ، فجاءهم نصر الله والفتح ، وزلزلوا عروش الأكاسرة والقياصرة .

وحين جاهدوا في سبيل الله لم يجاهدوا في سبيل تكوين إمبراطورية عربية ، إنما جاهدوا ، كما قال ربعى بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدرجد : الله ابتعثنا لنخرج الناس من العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلامix .

( وما العرب بغير الإسلام ؟ ما الفكرة التي قدّموها للبشرية ، أو يملكون تقديمها ، إذا هم تخلّوا عن الإسلام ؟ إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة .

والأمم التي لم تكن تمثل فكرة –كالتتار الذين اجتاحوا الشرق ، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب- لم يستطيعوا الحياة طويلا ، وإنما ذابوا في الأمم التي فتحوها .

والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية ، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة )x .

وبقدر التزام العرب بأحكام الإسلام ، نصّا وروحا ، بقدر ما يكونون أهلا للنصر والسؤدد ، والله ولي التوفيق .

i انظر تفسير النسفي 4/280 ، وفي ظلال القرآن 30/248 ، وتفسير جزء عم للأستاذ الإمام محمد عبده ص 120 ، وتفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي 30/242 .

ii تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 30/164 .

iii المرجع السابق 30/165 .

iv تفسير جزء عم للأستاذ محمد عبده ص 119 ، 120 .

v في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/669 .

vi المرجع السابق ، بتصرف ، 30/672 .

vii الآية 75 من سورة المائدة وتمامها : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } .

والمراد أنهما من جنس البشر كانا يأكلان ويتخلصان من فضلات الطعام بالبول والغائط ، ومن كان كذلك كان إنسانا محتاجا للأكل والشرب وقضاء الحاجة ، والاحتياج نقص والنقص على الله محال .

viii إن الله حبس عن مكة الفيل :

رواه البخاري في اللقطة ( 2434 ) ومسلم في الحج ( 1355 ) وأبو داود في المناسك ( 2017 ) وأحمد في مسنده ( 7201 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط رسوله والمؤمنين فإنها لا تحل لأحد كان قبلي وإنها أحلت لي ساعة من نهار وإنها لا تحل لأحد بعدي فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقيد ) ، فقال العباس : إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى الله عيه وسلم : ( إلا الإذخر ) . فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال : اكتبوا لي يا رسول فقال صلى الله عليه وسلم : ( اكتبوا لأبي شاه ) . قلت للأوزاعي : ما قوله : اكتبوا لي يا رسول الله ؟ قال : هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عيله وسلم .

ix البداية والنهاية لابن كثير .

x انظر في ظلال القرآن ، الجزء الثلاثون ، ص674 ، 675 . ( اقتباس واختصار ) .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

العصف : حطام التبن ، وورق الزرع .

مأكول : أكلت الدواب بعضَه ، وتناثر بعضُه الآخر .

وهكذا جعلهم كورقِ الشجرِ الذي عَصَفَتْ به الريح .

وهذه معجزةٌ عظيمة تدلّ على حُرمة البيت الحرام . وقد فسّر بعض العلماء أن الطيرَ الأبابيلَ هو وباءُ الجدري والحصبة ، وما أشبه ذلك . وهذا غيرُ وارد . فلقد نزلت هذه السورة في مكة ، وكان كثيرٌ من رجالات قريش ممن شهدوا الحادثَ لا يزالون أحياء عند نزول هذه السورة ، ولم يعترضوا عليها ، فهي من خوارق العادات والمعجِزات المتقدمة بين يدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وهكذا حفظ اللهُ البيتَ الحرام ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

{ فجعلهم كعصف مأكول } كزرع أكلته الدواب فداسته وفتتته ، والعصف ورق الزرع .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

قوله تعالى : { فجعلهم كعصف مأكول }

أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب ، فرمت به من أسفل . شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه . روى معناه عن ابن زيد وغيره . وقد مضى القول في العصف في سورة " الرحمن " {[16425]} ، ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة :

تَسْقِي مَذَانِبَ قد مالت عَصِيفَتُهَا *** حَدُورُهَا من أَتِيِّ الماء مَطْمُوم{[16426]}

وقال رؤبة بن العجاج :

ومَسَّهُمْ ما مَسَّ أصحابَ الفيل *** ترميهم حجارة من سجيلْ

ولعبت طير بهم أبابيل *** فصيروا مثل كعصف مأكولْ

العصف : جمع ، واحدته عصفة وعصافة ، وعصيفة . وأدخل الكاف في " كعصف " للتشبيه مع مثل ، نحو قوله تعالى : { ليس كمثله شيء }{[16427]} [ الشورى : 11 ] . ومعنى " مأكول " حبه . كما يقال : فلان حسن ، أي حسن وجهه . وقال ابن عباس : { فجعلهم كعصف مأكول } أن المراد به قشر البر ، يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح . ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه ، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة . وقال ابن مسعود : لما رمت الطير بالحجارة ، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة ، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك ، ولم يسلم منهم إلا رجل{[16428]} من كندة ، فقال :

فإنك لو رأيتِ ولم تَرَيْهِ{[16429]} *** لدى جنب المُغَمِّسِ ما لَقِينَا

خشيت الله إذ قد بثَّ طَيْرا *** وظِلَّ سحابَةٍ مَرَّتْ علينَا

وباتت كلُّها تدعو بحقٍّ *** كأن لها على الحُبْشَانِ دِينَا

ويروى أنها لم تصبهم كلهم ، لكنها أصابت من شاء الله منهم . وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا . فالله أعلم . وقال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم ، وكفاهم مؤونة عدوهم ، فكان ذلك نعمة من الله عليهم .


[16425]:راجع جـ 17 156.
[16426]:المذانب: مسايل الماء. والعصيفة: الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. و حدورها: ما انحدر منها واطمأن. والأتي (كغنى): الجدول. والمطموم: المملوء بالماء.
[16427]:آية 11 سورة الشورى.
[16428]:هو نفيل بن حبيب، كما في تاريخ الطبري وابن الأثير.
[16429]:في نسخ الأصل : "ولو ترانا" وهو تحريف؛ لأنه يخاطب امرأة. والأبيات كما أوردها الطبري (ص 942 قيم أول طبع أوربا) وابن الأثير (جـ 1 ص 322 طبع أوربا): ألا حييت عنا يا ردينـــــــــــــــا * نعمنا كم مع الإصباح عينا أتانا قابس منكم عشـــــــــاء * فلم يقدر لقابسكم لدينــــــــــا ردينة لو رأيت ولم تريــــه * لدى جنب المحصب ما رأينا إذن لعذرتني وحمدت رأيي * ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا لكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينــــا
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

ولما تسبب عن هذا المرمى هلاكهم ، وكان ذلك بفعل الله سبحانه وتعالى القادر على ما أراد ؛ لأنه الذي خلق الأثر قطعاً ؛ لأن مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك ، قال : { فجعلهم } أي ربك المحسن إليك بإحسانه إلى قومك لأجلك بذلك { كعصف مأكول * } أي ورق زرع وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود ويجوفه ؛ لأن الحجر كان يأتي في الرأس فيخرق بما له من الحرارة وشدة الوقع كل ما مر به ، حتى يخرج من الدبر ، ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية ، أو أكل حبة فبقي صفراً منه ، أو كتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن ، كقوله تعالى :{ كانا يأكلان الطعام }[ المائدة : 75 ] ، وهذا الإهلاك في إعجابه هو من معاني الاستفهام التقريري في أولها ، فقد تعانق طرفاها ، والتف أخراها بأولاها ، والله أعلم بمراده .