الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

قوله تعالى : { فجعلهم كعصف مأكول }

أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب ، فرمت به من أسفل . شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه . روى معناه عن ابن زيد وغيره . وقد مضى القول في العصف في سورة " الرحمن " {[16425]} ، ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة :

تَسْقِي مَذَانِبَ قد مالت عَصِيفَتُهَا *** حَدُورُهَا من أَتِيِّ الماء مَطْمُوم{[16426]}

وقال رؤبة بن العجاج :

ومَسَّهُمْ ما مَسَّ أصحابَ الفيل *** ترميهم حجارة من سجيلْ

ولعبت طير بهم أبابيل *** فصيروا مثل كعصف مأكولْ

العصف : جمع ، واحدته عصفة وعصافة ، وعصيفة . وأدخل الكاف في " كعصف " للتشبيه مع مثل ، نحو قوله تعالى : { ليس كمثله شيء }{[16427]} [ الشورى : 11 ] . ومعنى " مأكول " حبه . كما يقال : فلان حسن ، أي حسن وجهه . وقال ابن عباس : { فجعلهم كعصف مأكول } أن المراد به قشر البر ، يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح . ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه ، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة . وقال ابن مسعود : لما رمت الطير بالحجارة ، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة ، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك ، ولم يسلم منهم إلا رجل{[16428]} من كندة ، فقال :

فإنك لو رأيتِ ولم تَرَيْهِ{[16429]} *** لدى جنب المُغَمِّسِ ما لَقِينَا

خشيت الله إذ قد بثَّ طَيْرا *** وظِلَّ سحابَةٍ مَرَّتْ علينَا

وباتت كلُّها تدعو بحقٍّ *** كأن لها على الحُبْشَانِ دِينَا

ويروى أنها لم تصبهم كلهم ، لكنها أصابت من شاء الله منهم . وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا . فالله أعلم . وقال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم ، وكفاهم مؤونة عدوهم ، فكان ذلك نعمة من الله عليهم .


[16425]:راجع جـ 17 156.
[16426]:المذانب: مسايل الماء. والعصيفة: الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. و حدورها: ما انحدر منها واطمأن. والأتي (كغنى): الجدول. والمطموم: المملوء بالماء.
[16427]:آية 11 سورة الشورى.
[16428]:هو نفيل بن حبيب، كما في تاريخ الطبري وابن الأثير.
[16429]:في نسخ الأصل : "ولو ترانا" وهو تحريف؛ لأنه يخاطب امرأة. والأبيات كما أوردها الطبري (ص 942 قيم أول طبع أوربا) وابن الأثير (جـ 1 ص 322 طبع أوربا): ألا حييت عنا يا ردينـــــــــــــــا * نعمنا كم مع الإصباح عينا أتانا قابس منكم عشـــــــــاء * فلم يقدر لقابسكم لدينــــــــــا ردينة لو رأيت ولم تريــــه * لدى جنب المحصب ما رأينا إذن لعذرتني وحمدت رأيي * ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا لكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينــــا